مقهى الشابندر في بغداد.. ملتقى النخبة والأدباء

صاحبه منع ألعاب النرد «الدومينو» كي يكون مكاناً هادئاً يرتاده طلاب العلم والأدب

جانب من المقهى بعد اعادة افتتاحه («الشرق الاوسط»)
TT

استقبلنا صاحب مقهى الشابندر العريق في شارع المتنبي ببغداد والذي أعيد افتتاحه قبل أيام، بدموع غزيرة انهمرت من عينيه حزنا على اولاده الخمسة الذين فقدهم في حادث التفجير الذي شهده الشارع في 15 مارس (آذار) من العام الماضي. ولكن عزاء الحاج محمد كاظم الخشالي الوحيد هو اعادة افتتاح المقهى واستقبال رواده مجددا بعد إعادة إعمار شارع المتنبي الذي يقع فيه المقهى إثر تعرضه لخسائر جسيمة بسبب الانفجار.

و«مقهى الشابندر»، أحد أقدم مقاهي بغداد والذي تم تأسيسه عام 1917، يختلف كثيرا عن بقية المقاهي البغدادية، فجلوسك فيه لا يعني قضاء للوقت او التسكع الذي يمتاز به العاطلون عن العمل، بل على عكس ذلك فكونك من رواد الشابندر يعني التميز والدخول لعالم النخبة.

وتعني كلمة (شابندر) رئيس التجار في اللهجة العراقية المستمدة من مصطلح عثماني الاصل، وأسس المقهى بعدما كان المبنى عبارة عن مطبعة مشهورة في بغداد، أصحابها من عائلة عراقية بغدادية أصيلة.

وعندما تم تهديم المطبعة وبني هذا المقهى لاقى في حينها نجاحاً كبيراً كونه يقع في منطقة مكتظة بالسكان، ويرتاده أهالي المحلات البغدادية القديمة مثل جديد حسن باشا والعاقولية والحيدر خانة. والمقهى لم يكن ليحافظ على مكانته في العقود الاخيرة لولا جهود الحاج الخشالي، 70 عاما، الذي اكد انه لولا «استغاثته» منذ عام 1990 لتحول مقهى (الشابندر) إلى محلات تجارية، ولضاع تاريخه العريق. وقال لـ«الشرق الاوسط» لقد «حصلت على قرار اعتبر هذا المقهى من المرافق السياحية التراثية، ولا يمكن أن يتغير بأي حال من الأحوال، ضمن المنهاج السياحي لمدينة بغداد».

ويقع المقهى في شارع المتنبي المتخصص ببيع الكتب ولذلك تميز رواده بانهم من المثقفين والشعراء والادباء ورجال الصحافة على مدى تلك العقود. وأضاف الخشالي انه حين آلت إليه ملكية المقهى سنة 1963 عمل على منع ألعاب النرد «الدومينو» كي يكون مكاناً هادئاً يرتاده طلاب العلم والأدب والثقافة وليكون منتدى أدبياً مفتوحاً لجميع الأذواق، وايضا ليستفيد الزبائن من الوقت للقراءة والكتابة.

وقال الخشالي «أعتز بتراث بلدي وأحترم الأدباء والفنانين، مبتعداً عن العقلية التجارية، ليكون هذا المكان رمزاً للمفكرين في العراق وتجمعاً ثقافياً تحت لافتة مقهى الشابندر»، وأكد انه تعرض لبعض الاغراءات التجارية بتحويل المقهى لمشاريع اكثر ربحا او عماره، وغيرها لكنه رفض وبشدة «لإحساسي بقيمة المقهى التراثية للبلد، وبقيت محافظاً على معالمها الجميلة».

ويقول الخشالي، ان المقهى شهد في السابق نشاطات لم تعد حاضرة الان، اذ كانت تقام امسيات في ليالي رمضان كما تقام حفلات المقام بحضور قارئ المقام العراقي الرائد رشيد القندرجي. كما عقدت فيه ايضا الندوات والاجتماعات السياسية، وانتلقت منه عام 1948 أكبر تظاهرة للتنديد بمعاهدة بورتسموث.

وجدران المقهى تمتلئ بالصور القديمة، التي اكد الخشالي انه عانى كثيرا لايجاد قسم منها بعد التفجير، وقال ان هناك صورا تبرع بها مثقفون كهدية للمقهى. وجميع الصور كانت تحاكي بغداد القديمة فهناك صور التقطت قبل عام 1900 بعضها يسرد اهم الاحداث التي شهدتها بغداد واخرى لشخصيات معروفة مثل مسز بيل ورؤساء وزارات. وتجولنا في أرجاء المقهى الذي كان يعج بالأدباء والفنانين والصحافيين والمثقفين، وملأ زواياه عدد من السماورات النحاسية المختلفة الأشكال والأحجام (وهي مراجل لغلي الماء ووضع اباريق الشاي فوقها)، ودلال القهوة والنارجيلات والساعات الجدارية القديمة ولوحات بغدادية زيتية وفوتوغرافية تعود إلى الحياة البغدادية في العشرينيات، منها صورة كبيرة للملك فيصل الأول في أحد اجتماعاته الذي ضم أعيان بغداد، وصورة للجنرال خليل باشا والي بغداد وصورة صغيرة للسير تشارلز طاونزند الذي أسره الأتراك في موقعة الكوت وصورة جثمان الملك غازي محمولاً على أكتاف ضباط الحرس الملكي في 5 ابريل (نيسان) 1939.

ويمكن تسمية المقهى بمأوى الأدباء الوافدين من المحافظات في نهارات ايام الجمعة فهؤلاء يأتون الى بغداد لشراء الكتب أو لارسال مساهماتهم الى الصحف والمجلات البغدادية.

وكشف الخشالي عن ان ما يدره المقهى لم يكن يكفي لتغطية نفقات العمال وغيرها، واضاف «لكني بقيت امارس عملي فيها، اما نفقاتها فقد كانت تغطى عبر الارباح التي تجنيها مطبعة ابن العربي التي كانت بجاورها لكنها نسفت بالكامل جراء التفجير واستشهد بداخلها ابنائي الخمسة كما دمر 90 بالمائة من المقهى، وبعد ذلك اثرت على نفسي في ان يبقى هذه المقهى حتى وان كان العمل لا يحقق ارباحا، كما توقف الدعم الذي كان يأتي من المطبعة، وقمت بفتح ابواب المقهى ليبقى بالشهرة ذاتها ويستمر مكانه بين رواده حتى موتي». ونفى الخشالي وجود تطرف سياسي داخل المقهى، وقال ان «كل ما تجده هو نقاشات سياسية عادية بين رواده وكلما تعالت حدة نقاشاتهم فهناك من يردعهم ويجبرهم على الاكتفاء بنقاشات شفافة».

من جانبه، قال توفيق التميمي، كاتب ومثقف عراقي، ان له علاقة وثيقة بشارع المتنبي ومقهى الشابندر فقد عمل في فترة الحصار في بيع الكتب على رصيف الشارع، مضيفا انه سيقوم بأرشفة كل ما حدث في هذا الشارع.

وقال التميمي ان «من رصيف شارع المتنبي انطلقت عدة مظاهر من اهمها واخطرها هي ثقافة الاستنساخ، والثقافة الممنوعة، ويمكن من خلالها قياس توجه الثقافة العراقية، فكل مرحلة ثقافية تبدا من هذا المكان، فمثلا في عقد السبعينيات كانت هناك ثقافة الادب والشعر التي تحولت بعد الحرب العراقية الايرانية في الثمانينيات الى بحث عن كتب الشعوذة والدجل وكتب العشائر، اما الان فهي ظاهرة الكتب السياسية».

وحول مقهى الشابندر قال التميمي ان «حضوري للمقهى هو وقت مقدس، حتى المقاعد يتم توزيعها، فهنا يجلس الادباء والمؤرخون، وهناك الفنانون وهكذا، اما الصور التي تحملها الجدارن فتعطيك امتدادا لتاريخ مدينتنا، وهي اخر المقاهي المتبقية لبغداد».