التاريخ سيتذكر عام 2008.. بالعاصفة الاقتصادية أكثر من أي شيء آخر

شهد انهيار بنوك كبيرة وتدخلات حكومية «لإنقاذ ما يمكن إنقاذه»

امتدت الازمة المالية العالمية لتشمل كل انحاء العالم
TT

في نهاية كل عام يحاول العالم التعرف على أهم الأحداث التي ستميزه عن بقية الأعوام. وعادة ما تكون تلك الأحداث متنوعة في مجالات مختلفة، لكن في بعض الأحيان يسيطر حدثٌ بعينه بحيث يطغى على بقية الأحداث. وخير مثال على ذلك، عام 2001 الذي شهد هجمات سبتمبر (أيلول) الشهيرة على الولايات المتحدة، والتي لاتزال عواقبها تعيش معنا حتى اليوم. أما هذا العام (2008) فيعتقد الكثيرون أنه سيدخل التاريخ كعام الأزمة المالية التي لم ير العالم مثلها منذ كساد الثلاثينات من القرن الماضي. ولا نعلم بعد كم من الزمن ستظل عواقب هذا الحدث تعيش معنا في السنوات المقبلة. قبل عامٍ ونصف العام تقريباً لم يكن العالم قد سمع بتعبير «أزمة الائتمان» credit crunch، أما اليوم فقد دخل هذا التعبير القواميس الاقتصادية. وهو يعني باختصار: شحاً في السيولة لدى البنوك، ومن ثم عدم قدرتها على منح ائتمانات أو قروض. ورغم أن الاقتصاديين اختاروا تاريخاً محدداً لبداية الأزمة (وهو 9 أغسطس (آب) 2007، عندما أعلن بنك «بي إن بي بريبا» الفرنسي زيادة ضخمة في سعر الفائدة على القروض التي يمنحها) فإن بداية الأزمة واقعياً كانت في الولايات المتحدة قبل فترة طويلة من هذا التاريخ. وكما يقول الاقتصاديون دائماً «عندما تعطس الولايات المتحدة، يُصاب بقية العالم بالرشح». فخلال العامين بين 2004 و2006 رفعت الولايات المتحدة سعر فائدتها الأساسي مرة تلو الأخرى ليصل من 1% إلى 5.35%. وكانت نتيجة ذلك أن فشل عددٌ كبير من الأميركيين في سداد الاقساط الشهرية على قروضهم التي اشتروا بها منازلهم. ومع فشلهم في السداد لاحت بداية أزمة السيولة لدى البنوك، خصوصاً تلك التي كانت تمنح قروضاً بمئات الآلاف بكل سهولة دون التدقيق في قدرة العملاء على سداد هذه الديون. وفي أغلب الأحيان تفرض البنوك أسعاراً مرتفعة للفائدة على هذه القروض، علماً منها بأن أصحابها لا يستطيعون الحصول على قروض بالطريقة العادية وبأسعار فائدة عادية.

وبالطبع فقط اضطرت البنوك إلى تحمل خسائر هذه الديون التي تُعرف باسم «الديون المعدومة» أو «الديون الهالكة». كما أن القروض التي تُمنح بسهولة دون التدقيق في القدرة المالية للعميل نمت وانتشرت بسرعة في الأسواق الغربية بحيث أصبحت تُعرف باسم خاص بها وتخصصت فيها بعض البنوك. وربما ما دفع المصارف إلى تسهيل منح القروض هو المنافسة فيما بينها على «خطف الزبائن من السوق» قبل أن يذهبوا إلى بنك آخر. فكل بنك كان يسعى إلى الحصول على عددٍ أكبر من العملاء، ومن ثم حصة أكبر في السوق. ومع بداية عام 2007 وصل حجم «القروض الخطرة» إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، الأمر الذي دفع بعض الخبراء الماليين إلى التحذير من خطورة سياسة الاقراض المتساهلة، وإمكانية تأثيرها على استقرار النظام المالي بشكل عام. وهذا ما حدث بالفعل في ربيع ذلك العام.

وبسرعة هائلة راحت الأزمة تتطور حتى بلغت ذروتها في أواسط عام 2008 عندما راحت كبرى البنوك الأميركية تنهار وتلتها المؤسسات المالية في الدول الأوروبية. ورغم أن الأزمة كانت أوضح بدرجة كبيرة في الدول الغربية الا أنها انتشرت أيضاً في كثيرٍ من أنحاء العالم بما فيها الشرق الأوسط. وفي جوٍ من الذعر والهلع قامت الحكومات الغربية باجراءات غير مسبوقة في النظام الرأسمالي، مثل تأميم بعض البنوك المنهارة وشراء حصص كبيرة في بنوك أخرى متعثرة، فضلاً عن ضخ مئات المليارات من أموال الخزينة العامة في المؤسسات الخاصة وأسواق المال والبورصات مما اعتبر تدخلاً في السوق وانتهاكاً لمبادئ الاقتصاد الحر.

* هل يحتاج اقتصاد السوق الحر

* إلى مراجعة نظرياته؟

ودفعت أزمة الائتمان الى طرح اسئلة كثيرة ومطالب بضرورة اعادة النظر في فكرة الاقتصاد الحر. وتقوم فكرة الاقتصاد الحر على عدم تدخل الدولة في السوق. والمقصود بعدم التدخل هنا هو أن الدولة لا تدخل كبائعٍ أو مشترٍ، لكنها بالطبع تحتفظ بدورها كمراقب ومشّرع لجملة النشاط الاقتصادي في البلاد. وعلى عكس فكرة الاقتصاد الحر، تمارس بعض الدول فكرة الاقتصاد المركزي الذي تملك فيه الدولة وسائل الانتاج والشركات الكبرى والخدمات العامة والمرافق الحيوية. وبالطبع هناك بعض الدول التي خلطت بين النظامين، أو ما يُعرف بالاقتصاد المشترك. وعبر التاريخ الحديث، ظلت الولايات المتحدة تقود فكرة الاقتصاد الحر الذي تترك فيه الدولة الغالبية العظمى من النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص وفق فلسفة مفادها «أن السوق يضبط نفسه بنفسه». فحتى أوروبا، التي أيضاً تطبق نظام الاقتصاد الحر، لم تصل إلى درجة الولايات المتحدة قبل أن تبدأ في عمليات التخصيص التي قادتها بريطانيا إبان عهد رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر في الثمانينات من القرن الماضي حين شرعت أوروبا في بيع الشركات التي كانت تملكها الدولة إلى القطاع الخاص. وتبعت بريطانيا كلٌ من ألمانيا وفرنسا التي لاتزال الدولة تملك فيها شركات كبيرة ومرافق خدمية. ورغم أن أوروبا الغربية كانت تعتبر نفسها رأسمالية في الأساس الا أن كثيراً من الأفكار الاشتراكية (الاقتصاد الموّجه) تسربت بعد الحرب العالمية الأولى إلى أركان عديدة من أنشطتها الاقتصادية بحيث أصبحت أنظمتها الاقتصادية عبارة عن اقتصاد مشترك بين القطاعين الخاص والعام. وبالطبع كانت درجة هذا الاختلاط تختلف من دولة إلى أخرى، ففرنسا مثلاً كانت أكثر اختلاطاً من بريطانيا وألمانيا، والدولة فيها أكثر سيطرة على الاقتصاد من القطاع الخاص.

وعلى طرفي النقيض من أوروبا كانت هناك الدول الاشتراكية (كالاتحاد السوفياتي والصين وشرق أوروبا) حيث تملك الدول جميع وسائل الانتاج ولا تسمح للقطاع الخاص بأي نشاط اقتصادي وتتحكم الدولة مركزياً في جميع الأنشطة الاقتصادية والمالية إلى حد تحديد سعر صرف العملة، بل وتحديد أسعار الخضروات في السوق. وفي المقابل كانت الدولة في الولايات المتحدة لا تملك شيئاً، فحتى شركات المرافق الحيوية ـ كالماء والكهرباء ـ كانت قطاعاً خاصاً (على عكس أوروبا الغربية التي كانت حتى وقت قريب تملك فيها الدولة هذه الشركات، بل وشركات الطيران وحافلات النقل).

غير أن خطة الانقاذ المالية الأخيرة في الولايات المتحدة، التي تعتبر أكبر تدخل للسلطات الأميركية في السوق منذ أزمة «الكساد الكبير» في الثلاثينات من القرن الماضي، أثارت مخاوف بعض الاقتصاديين الأميركيين من أن بلادهم قد تكون على أعتاب «عصر الدولة المساهمة» في الولايات المتحدة مما يشكل منعطفاً تاريخياً يبقى حجمه مرهوناً بعواقب تدخل الدولة في الأسواق المالية. فوفق الخطة الانقاذ الأميركية الأخيرة التي دفعت فيها الدولة مليارات الدولارات (ليس كتبرعٍ، بل مقابل حصولها على أسهم في الشركات المتعثرة) ستصبح الدولة مالكة لحصصٍ في مؤسسات تابعة للقطاع الخاص مما يعني أنها ستستفيد من الربح والخسارة التي ستحققها هذه الشركات في المستقبل، أي أن الدولة ستصبح صاحبة مصالح تجارية في السوق تتنافس مع شركات أخرى ذات ملكية خاصة مئة في المئة.

وبينما تبرر الدول هذه الإجراءات بحجة أن المال الذي ستستخدمه في شراء هذه الأسهم هو مالٌ عام ولا بد من حمايته من الخسارة، يخشى بعض الاقتصاديين من أن يمثل هذا تحولاً جوهرياً في دور الدولة في الاقتصاد الحر، خصوصاً أن الولايات المتحدة ظلت تجادل عدداً من الدول حول العالم لاقناعها برفع الحماية عن منتجاتها وفتح أسواقها أمام المنافسة الحرة.

من جهة أخرى يرى البعض أن المنافسة الحرة، رغم محاسنها العديدة لصالح المستهلك، فهي يمكن أن تؤدي إلى أزمة مثل أزمة الديون الهالكة الحالية والتي تسببت في أزمة الائتمان والنظام المصرفي ككل.

ومن مفارقات القدر أنه في الوقت الذي اضطرت فيه الولايات المتحدة إلى التنازل، ولو قليلاً عن مبادئها المقدسة في ترك السوق لحاله دون أي تدخل من الدولة، راح بلدٌ كبير مثل الصين الشيوعية ترفع يدها تدريجياً عن كثيرٍ من الأنشطة الاقتصادية التي تركتها للقطاع الخاص المتنامي بسرعة هائلة. فربما صدق الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عندما قال، تعليقاً على الأزمة، «اننا في حاجة لإعادة بناء النظام المالي والنقدي العالمي من جذوره».

* الصين والهند ستقودان

* النمو الاقتصادي العالمي

* توضح إحصاءات صندوق النقد الدولي أن معدل النمو الاقتصادي المتوقع في الولايات المتحدة للعام المقبل قد انخض إلى 0.1% وفي أوروبا إلى 0.2% (أي ما يقرب من الصفر) بينما سيصل في الصين إلى 9.3% وفي الهند 6.9% وفي أفريقيا جنوب الصحراء 6.3%. وفي هذا الصدد قال شارام تفازي، المحلل المالي في بنك «ميريل لينش» لـ «الشرق الأوسط» إن معدل النمو العالمي كان سيصبح أدنى بكثير لولا معدلات النمو المرتفعة في الدول الناشئة بقوة مثل الصين والهند. ويتفق تفازي مع عدد من المحللين الذين أصبحوا يتحدثون عن أن الصين والهند ستكونان، بلا شك، المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي العالمي خلال العامين القادمين، على الرغم من أنهما تأثرتا إلى حد ما بالأزمة الحالية في أسواق المال الغربية. من جهة أخرى، أوضحت احصاءات صندوق النقد الدولي أن الاقتصادات الناشئة (وهذه تسمية أطلقها البنك الدولي قبل 25 عاما) أنتجت في عام 2005 أكثر من نصف اجمالي الانتاج العالمي للمرة الأولى منذ الثورة الصناعية في أوروبا. والحقيقة الثانية أن العالم الناشئ شّكل أكثر من نصف الزيادة العالمية في إجمالي الناتج المحلي محسوبا بالدولار الأميركي. كما أن نمو الصين والهند الاقتصادي الحالي يعتبر أسرع من نمو الدول الصناعية الأوروبية عندما كانت في طور نشأتها. وعلى سبيل المثال فقد استغرقت بريطانيا والولايات المتحدة، إبان تطورهما الصناعي في مراحله الأولى، نحو 50 عاما لكي يتضاعف دخل الفرد ـ بينما استطاعت الصين تحقيق ذلك خلال عقد واحد فقط. ويعود الفضل في ذلك جزئيا الى كون الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة نمت في ظل اقتصاد عالمي ساده الانفتاح وحرية الحركة بما في ذلك حركة التكنولوجيا الحديثة والنظريات الاقتصادية المجربة ـ بينما كانت الدول الصناعية الأولى تضطر الى ابتداع صناعات وتقنيات جديدة باستمرار اذا ارادت لنموها الاقتصادي أن يتواصل. وقد ينسى الناس أن الصين والهند كانتا، على مدى غالبية الوقت عبر التاريخ (نحو 18 قرناً)، أكبر اقتصادين في العالم حتى مجيء الطفرة الصناعية والاقتصادية في أوروبا في عام 1820. وطوال هذه القرون كان البلدان العملاقان ينتجان نحو 80% من إجمالي الانتاج العالمي، لكن حصتهما تراجعتا الى اقل من 40% مع مطلع القرن العشرين الذي هيمنت عليه الدول الغربية وظهرت فيه الولايات المتحدة لأول مرة كقوة اقتصادية كبرى. وبعد عقود من التدهور الاقتصادي في الهند والصين فإن تصدرهما للنمو الاقتصادي حاليا، ربما يعني أنهما تحاولان الآن استعادة عرش قديم وليس التربع عليه للمرة الاولى مثلما يظن البعض. فلاشك أن هذه أفضل فرصة منذ أكثر من قرن. وفي أسواق العملات فإن الدول الناشئة بشكل عام تملك الآن ثُلثي احتياطي العالم من العملات الأجنبية. أما النفط فهي تستهلك 47% من الاستهلاك العالمي. واذا استمر الحال هكذا فإنه خلال العشرين سنة المقبلة سيصبح انتاج الدول النامية 66% من جملة الانتاج الدولي. ولكن في المقابل فإن أسواق الأسهم تستقطب 14% فقط من رأس المال المستثمر عالمياً في أسواق الأوراق المالية، رغم أن بعض هذه الأسواق أصبح يجذب رؤوس الأموال الدولية مما سيتسبب في نمو كبير في هذا القطاع خلال السنوات القليلة المقبلة. وفي الحقيقة فإن معهد التمويل الدولي قد ذكر أن صافي رأس المال الخاص الذي تدفق على الأسواق الناشئة منذ عام 2005 بلغ رقما قياسيا: 358 مليار دولار. والأهم من ذلك أن الحكومات لم تحتج لهذه المبالغ لسد عجز الحساب الجاري. فلأول مرة منذ زمن طويل تحقق غالبية هذه الدول فائضا في حساباتها الجارية، وذلك لأن انتعاشها الاقتصادي ـ على عكس المرات السابقة ـ يعتمد هذه المرة على تمويل داخلي وليس على الديون الخارجية. ولكن على الرغم من أن الدول النامية اصبحت الآن تنتج أكثر من نصف الانتاج العالمي فإن عدد سكانها يمثل 83% من سكان العالم، لذا فإن دخل الفرد في هذه الدول لايزال أقل كثيرا من نظيره في الدول الغنية. من جهة أخرى فإن مخاوف الغرب من نهضة العملاقين الآسيويين، الصين والهند، ليس لها ما يبررها لأنه في الواقع كلما نمت دولة ما زادت صادراتها ومن ثم ثروتها التي ستستخدمها في الاستيراد من دول منتجة أخرى. وتأكيدا لهذه الحقيقة فإن التبادل التجاري بين الدول الغنية والعالم النامي قد تضاعف في سرعته مقارنة بالتبادل التجاري بين الدول الغنبية فيما بينها. كما أن أكثر من نصف صادرات أميركا واليابان أصبحت تذهب الى الدول النامية، وكذلك صادرات الاتحاد الأوروبي الى الدول النامية اصبحت ضعفي صادراته الى أميركا واليابان مجتمعتين.