كوبا.. صراع بين الحرية والثورة

50 عاما مرت على الثورة والكوبيون يأملون أن يصل مدّ التغيير إليهم.. ولكن ليس بالكامل

TT

احتفلت كوبا الاسبوع الماضي بمرور نصف قرن على ثورتها. ولأول مرة، توقع كثير من الكوبيين «تغييرا» في العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب الرئيس الاميركي المنتخب باراك اوباما الذي ردد بعضهم شعاره: «التغيير»، مستعملين الكلمة الاسبانية «كامبيا». تمنوا التغيير، ولكن ليس تغييرا كاملا. فالكوبيون، كما قال فنسنتي غونزاليز، حلاق في هافانا، لمراسل صحيفة «واشنطن بوست» الاسبوع الماضي: «يظل الاخ اوباما رأسماليا، وربما هو ايضا امبريالي».

استعمل الحلاق الكلمتين الاسبانيتين: «كابيتاليزمو» و«امبرياليزمو». وهما الكلمتان اللتان استعملهما فيدل كاسترو، قائد الثورة الكوبية، قبل خمسين سنة، عندما دخل هافانا بعد ان طرد الرئيس الدكتاتور فولخانسيو باتيستا.

ومنذ مائة عام، يسجل التاريخ صراعا عنيفا بين رأيين مختلفين عن الحرية والثورة: في جانب، ثورة كوبا (لرفع الظلم). وفي جانب آخر: حرية اميركا (رغم الظلم). خافت حرية اميركا من ثورة كوبا، لان ثورة كوبا تتحدث عن الظلم والاستغلال وتهاجم الرأسمالية والامبريالية. وخافت ثورة كوبا من حرية اميركا لانها نقيض للحكومات الدكتاتورية (شيوعية او رأسمالية).

وتظل اميركا تريد حرية في كوبا، وتظل كوبا تريد ثورة في أميركا. وتظل بين الاثنين، علاقة حب وكراهية ربما لا مثيل لها بين دولتين جارتين.

قبل خمسين عاما، لم يقد كاسترو ثورة من فراغ. في العام 1776، خافت كوبا من ثورة أميركا عندما كانت مستعمرة اسبانية (استعمرها الاسبان لأربعمائة سنة). وفضلت شركات زراعة السكر والتبغ والموز، استعمار اسبانيا على حرية اميركا. وفي العام 1860، خافت كوبا، مرة اخرى، من حرية اميركا بعد ان عتق الرئيس ابراهام لينكولن عبيد اميركا، لأن الشركات فضلت استغلال عبيدها.

وفي العام 1868، بعد مائة عام تقريبا من ثورة اميركا، انتقلت عدوى الثورة الى كوبا ضد الاحتلال الاسباني. تقدمت وتراجعت، ثم تقدمت وتراجعت. حتى العام 1896، عندما نزل ثوار كانوا تدربوا في المكسيك على ساحل كوبا بقيادة الشاعر هوزي مارتي. اغتيل مارتي، لكن انهزم الاسبان، واصبح مارتي الشاعر الثائر، ابا استقلال كوبا. ورغم انه بدأ ثورته من نيويورك، بتشجيع من الاميركيين، كراهية في الاسبان، رفض مارتي قبول اي مساعدة اميركية، وسمى اميركا «جالوت» (اشارة الى العملاق الفاسد في العهد القديم).

لكن مع ذلك، فقد استغل الاميركيون هزيمة الاسبان، وارسلوا قوات المارينز لغزو كوبا، واستبدلوا استعمارا باستعمار. وعندما قاومهم الكوبيون، ومنعوهم من احتلال الجزيرة كلها، اكتفوا بالقاعدة العسكرية في غوانتانامو. وحتى هذه استأجرها لهم توماس بالما، الاميركي الذي نصبوه رئيسا للجمهورية. لذا فان الكوبيين يعتبرون حتى اليوم، أن غوانتانامو هي ارض محتلة.

وقبل ان تشتهر غوانتانامو بأنها مكان القاعدة العسكرية الاميركية التي يعتقل فيها مئات من المسلمين بتهمة الارهاب، اشتهرت بشاطئها الابيض وخليجها الهادئ. وعُرفت بأنها المكان الذي نزل فيه كريستوفر كولومبوس عندما اكتشف المنطقة قبل خمسمائة عام تقريبا. واشتهرت بأنها موطن «غوانتانامير»، وهي كلمة اسبانية تعني «بنت غوانتانامو»، وهي اسم قصيدة كتبها الشاعر الثائر مارتي. واستلهمها عندما كان يسير على شاطئ غوانتانامو الذي يقع الآن داخل القاعدة العسكرية الاميركية، ورأى فتاة كوبية جميلة يقال انها كانت وحي قصيدته. لكن القصيدة وطنية اكثر منها عاطفية، واصبحت اشهر اغنية كوبية منذ ذلك الوقت، ولا زالت حتى اليوم. تقول بعض مقاطعها: «يا بنت غوانتانامو. انا رجل صادق. جئت من حيث ينمو شجر جوز الهند. اريد، قبل ان اموت، ان انشد هذا النشيد الروحي. نشيد اخضر فاتح. نشيد احمر مشتعل. نشيد ظبية مجروحة تبحث عن ملجأ في الجبال. زرعت وردة بيضاء في يناير، وزرعت اخرى في يوليو. اهديهما لصديقة مخلصة فتحت قلبها لي. يا بنت غوانتانامو».

قبل خمسين سنة، وبعد خمسة عقود منذ انطلاق «ثورة» مارتي، قاد فيدل كاسترو ثورته ضد حكومة كوبية اقطاعية حليفة للولايات المتحدة. سار على خطى مارتي. وعندما انتصر الثوار، دخلوا هافانا العاصمة، ومشوا في شوارعها يرددون اغنية «غوانتاناميرو» التي كتب كلماتها الشاعر الثائر. ثم خطب كاسترو.. وهاجم «كابتاليزمو» و«امبرياليزمو».

اليوم، وبعد مرور خمسين عاما على ثورة كاسترو، لا يزال راتب فينسنتي غونزاليز، الحلاق في هافانا، اقل من عشرين دولارا في الشهر، في وقت يتقاضى فيه الحلاق في واشنطن عشرين دولارا في الساعة احيانا. ولا يزال غونزاليز يحمل بطاقة تموين اعطتها له الحكومة، ويشتري من متاجر تملكها الحكومة، ويأكل في مطاعم تملكها الحكومة. لكن في الجانب الآخر، تصرف الحكومة على تعليم أولاده، وعلى علاجه وعلاجهم وامهم، وعلى جزء من ايجار الشقة التي تسكنها العائلة. قال الحلاق انه يعرف ان المشكلة ليست بين الشعبين الكوبي والشعب الاميركي، انما بين نظامين: حكومة «امبرياليزمو»، وحكومة «سوشياليزمو». وكأنه يقول: بين الحرية والثورة. لكنه قال ان هذا لا يجب ان يمنعه من ان يزور اقرباء له في ميامي، ويشاهد السياح الاميركيين في شوارع هافانا، ويشرب كوكا كولا، ويأكل ساندوتش هامبيرغر ماكدونالدز. لا يرى هذا الحلاق الكوبي تناقضا بين الاثنين: بين عداء الرأسمالية والامبريالية، وبين حب الهامبيرغر والكوكا كولا.

مؤخرا وفي عهد الرئيس الجديد راؤول كاسترو، شقيق فيدل، حدثت بعض «الاصلاحات»، مثل السماح للكوبيين ان يأكلوا في مطاعم فنادق السواح، وان ينزلوا في الفنادق، وان يشتروا هواتف جوالة. لكن تظل المقاطعة الاميركية تؤثر تاثيرا كبيرا على اقتصاد كوبا. وخلال الثماني سنوات التي قضاها الرئيس جورج بوش في البيت الابيض، شدد المقاطعة اكثر. ومنع الاميركيين من اصل كوبي، من زيارة اقاربهم في كوبا اكثر من مرة كل ثلاث سنوات، وتحويل اكثر من مائة دولار لهم كل شهر. ومنع زيارة السياح والطلاب واساتذة الجامعات الى كوبا. في المقابل، وعد اوباما الكوبيين الاميركيين، خلال الحملة الانتخابية، بالسماح لهم بزيارة كوبا في اي وقت، وتحويل اي اموال الى هناك. ووعد بتخفيض حظر سفر الاميركيين الى الجزيرة الكوبية.

هل يعاني الكوبيون بسبب اميركا او بسبب حكومتهم؟ بسبب الرأسمالية، او بسبب الشيوعية؟ يبدو انهم يعانون بسبب الاثنين... مع بعض التعقيدات. في جانب، اغضب الكوبيون الولايات المتحدة لانهم طردوا حكومة دكتاتورية فاسدة، ولكن صديقة. وامموا شركات رأسمالية مستغلة. وفي الجانب الآخر، بسبب حرية الولايات المتحدة التي تعتمد على الانتخابات والتبرعات، ضغط الاميركيون الكوبيون لمعاقبة الحكومة الدكتاتورية في وطنهم الام. اما فيما يخص الشيوعية، في جانب، دافع المعسكر الشيوعي عن كوبا، وساعدوها وهي تواجه عدوا عملاقا. لكنهم طبعا، لم يقدروا على ان يصدروا لها الحرية لأن فاقد الشيء لا يعطيه. اليوم، حتى بعد مرور نصف قرن من الزمن، تستمر المساعدات الشيوعية لكوبا، وقد بلغت هذه السنة، مليار دولار من الصين. لكن، في الجانب الآخر، وبفضل الحرية الاميركية، تحدى المزارعون الاميركيون حكومتهم، وباعوا في السنة الماضية، قمحا بنصف مليار دولار الى كوبا. تتحمل الدول الاجنبية، شيوعية ورأسمالية، جزءا من مسؤولية مشاكل كوبا. لكن تبقى المسؤولية الكبرى على كوبا نفسها، وخاصة بسبب اصرارها على نظام حكم دكتاتوري، سواء كان شيوعيا او رأسماليا. لماذا تصر كوبا على نظام حكم دكتاتوري؟ ولماذا لا يتمرد الكوبيون؟ يقول ريتشارد غوت في كتابه «تاريخ كوبا الحديث»: «يفسر الكوبيون استمرار حكم آل كاسترو بأنه تفضيل للشيطان الاصغر على الشيطان الاكبر. تفضيل لسيطرة داخلية على سيطرة خارجية». لكن طبعا، تبقى قضية الحرية. وبنفس المنطق، يمكن القول ان كوبا الحرة وهي تواجه الشيطان الاكبر افضل من كوبا الدكتاتورية وهي تفعل الشيء نفسه. ثم ان الحرية الاميركية جاءت باسود الى البيت الابيض. وللكوبيين قول في الموضوع. وهكذا، يردد راؤول ما قال شقيقه قبل خمسين سنة، وما قال مارتي قبل ذلك بخمسين سنة: «ليست مشلكة كوبا مع اميركا مشكلة اكل وشراب وسياح ودولارات وبيتزا وهامبيرغر، لكنها مشكلة صراع بين الحرية والثورة (لرفع الظلم، حتى في عصر الحرية)».