أحلام الفتى الطائر في شوارع القاهرة

يحملها مع طلبات الزبائن على دراجته النارية

الوظيفة.. «طيّار» أرضي في شوارع القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

في مصعد أحد الأبراج الفاخرة، بمنطقة المهندسين، في ضواحي العاصمة المصرية القاهرة، كانت العبارة الغامضة المذيَّلة بالسباب: «الراجل اللي في الدور السادس شقة 14 حلاّق موس ابن...». السبيل الوحيد لقطع رتابة الانتظار بين السماء والأرض لدقائق، قبل لقاء صديق قديم، بعد غياب سنتين بالخليج. ومرّت سويعات بصحبته، لم تفلح في فكّ لغز ساكن الشقة الرابعة عشرة، ولكن بعد الزيارة بيومين، كان أحمد (25 سنة) موصِّل الطلبات في مطعم «عمّو حسني» للمشويات، هو مَنْ فكّ الشيفرة.

فـ «حلاق الموس» تعني «الزبون الذي لا يدفع أي بقشيش»، ولذا استحقّ السباب. والسباب انتقام من وأد أمنية الموصِّل - أو «الطيّار» - في الحصول على مال إضافي، خصوصًا أنه يتقاضى 400 جنيه فقط كل شهر، نظير 9 ساعات من العمل، ترتفع إلى 800 جنيه إذا كانت الدرّاجة النارية ملك العامل، وعليه تكاليفها اليومية. و«حلاق الموس» جزء من لغة خاصة يستخدمها «الطيّارون» للتواصل، وتحذير بعضهم بعضًا، من زبائن معينين. فعبارة «على المفتاح» تعني أن الزبون لا يدفع مليمًا زائدًا عن المتوقع، و«برنس» تعني أنه زبون رائع يدفع بزيادة.

هكذا يتخاطب «الطيّارون»، وهو الاسم الشعبي لعُمّال توصيل الطلبات إلى المنازل. والاسم نفسه كان مثار عدد من المفارقات في مصر، مع بدء استخدامه، بينها ما صادفه أحدهم عندما تَقدّم لخطبة فتاة، وقدّم نفسه على أنه «طيّار»، فظنّ الأهل أنهم بصدد وظيفة مرموقة، تحلم فتيات كثيرات بالارتباط بأصحابها، ولكن بمجرد الاستطراد في التفاصيل، عرف الجميع الحقيقة، وانهارت الأحلام، وتوارت كل شعارات العمل النظيف والكسب الحلال، وكان الاعتذار السريع عن الرفض.

لكن أحمد «طيّار» مطعم «عمّو حسني»، تَمرّد على الأحلام الرومانسية الطائرة، ونزل إلى الأرض سريعًا، بعد إدراكه أن التحليق بعيدًا يحتاج إلى مؤن، مكانها الأرض، بل لقد تَمرّد على دراسته التي كانت تتكلف سنويًّا 23 ألف جنيه، طوال أربع سنوات، أمضاها في الأكاديمية العربية للنقل البحري، بتخصُّص اتصالات دولية، ولفظته سريعًا وظيفته على إحدى السفن. غير أن ابن الطبيب الميسور، والأسرة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وتقطن منطقة المعتمدية شبه الريفية، غربي القاهرة، ارتضى بوظيفة عامل توصيل للطلبات في أحد المطاعم، غير عابئ بنظرة المجتمع إليه.

يشرح أحمد أن اختيار العمل بهذه الوظيفة، كنقطة انطلاق لأحلام مشروعة، بطول الدنيا، اختيار صائب، فقد كان يتقاضى من العمل في السفن مبلغًا لا يتعدى 1400 جنيه، تُحسَم منها مصاريف السفر والمعيشة بعيدًا عن الأهل، فلا يتبقى له شيء، مع أنه مسؤول عن أجهزة ثمنها ملايين، ومن الممكن إذا ارتكب خطأً بسيطًا أن (يروح في داهية). ولذا، تركها، والتحق بإحدى شركات الكومبيوتر، للعمل في المحاسبة، وهناك تَعرّف على زوجته الحالية. وبعد فترة المشاعر المجّانية، كان عليه أن يثبت أنه قادر على «فتح البيت»، بحصيلة عام من العمل في الكومبيوتر. وتمكن أحمد من ادّخار أكثر من ثلاثة أرباع تكاليف الزواج، وبعد مساعدة والده الطبيب؛ تَمكّن من إتمام الزواج، لكن الشركة توقفت عن العمل، فكانت وظيفة الطيار هي البديل المناسب.

«9 ساعات بس، وجنب البيت، والحمد لله مستورة». هكذا تَكلّم أحمد مبتسمًا راضيًا بحياته الجديدة، بصحبة زوجته وطفلته، التي يحرص على تمضية ساعة بصحبتها قبل تبديل ملابسه كل ليلة.

ينفي أحمد أن يكون بلا طموح، وأن يتهمه أحد بالتضحية بوظيفته المرموقة على السفن من أجل الزواج والقرب من الأهل، فهو - على حد قوله - «ناجح وأكسب قوت يومي، وتعدّيت مرحلة الطيار إلى أن أصبحت (سوبرفيزر)، ماشي على مهلي لحد ما أبقى صاحب سلسلة مطاعم مشهورة».

يعتبر أحمد عمله الحالي منصّة انطلاق لطموحات كبيرة، ومحطة يجمع فيها المعلومات، كي يصبح مالكًا لسلسلة مطاعم، ولذا يهتمّ بالتفاصيل الصغيرة، من الأكل ونوعياته العديدة، إلى الأخطاء التي تُغضِب الزبائن، حتى التجهيزات اللازمة وطرق الدعاية. وحدّد لنفسه 3 سنوات فقط ليبدأ تنفيذ الخطوة الأولى.

تَحمّل أحمد عواقب كثيرة: «مرة زبون الأكل اتأخّر عليه شوية، قذف الأكل برجله، وأغلق الباب في وجهي، ولم أردّ، فالزبون دائمًا على حقّ، بس صعبِتْ عليّا نفسي».

بالإضافة إلى غضب الزبائن، هناك خطر القيادة في شوارع القاهرة، وتحمُّل لعنات أصحاب السيارات الخاصة والتاكسي، في ظل السباق، لتلبية رغبات الزبائن في أقل وقت ممكن. كما لا ينكر أن البعض استغلّ تلك الوظيفة واستخدمها في أغراض أخرى، كترويج المخدرات أو تسهيل الدعارة، لكن «كل مهنة لها سلبياتها، وأهمّ حاجة الواحد يراعي ربنا».

لم يقطع ابتسامة أحمد الراضية المتفائلة سوى نغمة الهاتف، التي تشدو بدعاء إسلامي شائع، معلنة استدعاءه إلى المطعم لتسليم حساب اليوم، الذي أمضاه في مهمّة طارئة كـ «طيّار»، بعد غياب أحد العُمّال، فاضطُرّ إلى العمل مكانه، مستمتعًا بشيء من نسيم القاهرة البارد، وسط الضوضاء وغبار الأحلام.