80 مليون برميل مخزنة في 35 ناقلة عملاقة انتظارا لارتفاع الأسعار

شركات تجارة النفط تلجأ للتخزين مع انخفاض الأسعار > 327 مليون برميل نفط داخل حاويات بمختلف أنحاء أميركا

يستخدم تجار النفط ناقلات النفط العملاقة لتخزين النفط الرخيص على أمل بيعه بسعر أعلى في المستقبل (أ.ب)
TT

من المحيط الهادي إلى جنوب المحيط الأطلسي وصولا إلى خليج المكسيك، تقف الناقلات العملاقة المملوءة بالنفط في الموانئ أو تتحرك ببطء في المياه على غير هدى. وتعمل هذه السفن كحاويات عائمة عملاقة لتخزين النفط. وقد قامت بعض الشركات والدول التي تؤجر هذه الناقلات من أجل هذا الغرض بحسبة بسيطة رأت من خلالها انخفاض أسعار النفط حتى الآن يُنبئ بأنها سترتفع في الفترة القادمة. وتعمد بعض الدول المنتجة إلى محاولة دفع أسعار النفط باتجاه الارتفاع من خلال استغلال الناقلات لحجب النفط عن السوق، بينما يحاول التجار الاستفادة من الموقف الراهن من خلال شراء النفط بأسعار رخيصة الآن لتخزينه وبيعه بسعر مرتفع في وقت لاحق. وانتشرت عملية تخزين النفط بدرجة كبيرة لدرجة أن المستودعات البرية تصبح نادرة شيئا فشيء. جدير بالذكر أنه منذ ستة شهور فقط، كانت الشركات النفطية تهرع لضخ النفط إلى الأسواق، بينما تناضل من أجل الوفاء بالطلب المتزايد مع الارتفاع الهائل في الأسعار. أما الآن، مع تباطؤ عجلة الاقتصاد العالمي وتراجع معدلات قيادة السيارات، وانخفض الطلب على النفط بشكل ملحوظ ـ وأصبحت نفس الشركات تتصرف على نحو لم يكن أحد ليتخيله حتى وقت قريب. في الوقت الحالي، يعمد منتجو النفط إلى وقف الحفارات عن العمل، بينما تراجع إنتاج معامل التكرير من البنزين. وتعصف حالة من الفوضى بالخطط الاستثمارية بشتى جوانب الصناعة. ولا تقتصر المشكلة التي تجابهها شركات النفط على انخفاض الأسعار، وإنما تمتد للتقلبات التي أصابت هذه الأسعار ـ تاريخياً، تعد تقلبات الأسعار مؤشراً على عدم استقرار سوق النفط غير واضح الاتجاهات. ومنذ اعياد الميلاد حتى أسبوع مضى، ارتفعت أسعار النفط بصورة بالغة وصلت إلى 40 في المائة، إلا أنها سرعان ما تحركت في الاتجاه المعاكس بالسرعة ذاتها خلال الأيام الأخيرة. وفي الأسبوع الماضي فقط انخفض سعر برميل النفط الخام بنسبة تقارب 12 في المائة خلال يوم واحد فحسب. وفي هذا السياق، علق دانييل يرغين، المستشار بمجال الطاقة ومؤلف كتاب «الجائزة» الذي يتناول تاريخ أسواق النفط العالمية، بالقول: «تعاني الأسواق النفطية من صدمة حادة مفاجئة، ويسهم تقلب الأسعار في تفاقم الشعور بالصدمة والاضطراب والتخبط».

ويذكر أن التقلبات الحادة في أسعار النفط تشكل استمراراً للتوجه الذي ساد سوق النفط العام الماضي عندما ارتفع سعر برميل النفط بصورة كبيرة ليصل إلى 150 دولاراً في يوليو (تموز) على الرغم من أنه في يناير (كانون الثاني) كان أقل بمقدار بسيط من 100 دولار للبرميل، بينما هوت الأسعار الشهر الماضي إلى أقل من 35 دولاراً للبرميل. وتشير الإحصاءات إلى أن الأسعار اليومية للنفط ارتفعت أو تراجعت بنسبة 5 في المائة أو ما يزيد 39 مرة، مقابل أربع مرات فقط على امتداد العامين الماضيين. أما العام الوحيد خلال الفترة الأخيرة الذي اتسم بقدر مشابه من التقلب في الأسعار فهو 1990، الذي شهد غزو العراق للكويت. والواضح أن التقلبات المستمرة في أسعار النفط تثير قدر بالغ من القلق عبر مختلف قطاعات الإنتاج والاستثمار داخل الحقل النفطي العالمي. ومنذ عام مضى، لم يكن باستطاعة جهات إنتاج وتكرير النفط تلبية الطلب العالمي المتنامي واللحاق بالأسعار الآخذة في الارتفاع. أما الآن ومع تراجع الطلب والأسعار، تضع هذه الجهات 327 مليون برميل نفط داخل حاويات تخزين بمختلف أنحاء الولايات المتحدة، خاصة في كشنغ بولاية أوكلاهوما، التي تعد مركزا مهما لتخزين النفط وتقع عند نقطة التقاء خطوط الأنابيب. وعند المقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، نجد أن هذا الكم من النفط المُخزن يزيد بمقدار أكثر من 40 مليون برميل، وما يزيد على 30 مليون برميل عن المتوسط خلال السنوات الخمس الماضية. وقد جرى تكوين هذا المخزون المتنامي على مدار الأيام المائة الأخيرة تقريباً، مع انخفاض معدلات استهلاك النفط عن معدلات الاستيراد والإنتاج المحلي. وفي الوقت الذي يجري تعبئة حاويات التخزين على البر، تعمد شركات النفط الخاصة والحكومية ومعامل التكرير وشركات الاتجار في النفط إلى تخزين ما يزيد على 80 مليون برميل داخل 35 ناقلة نفط عملاقة وعدد من الناقلات الأصغر، ويعد ذلك العدد الأكبر من نوعه على مدار 20 عاماً، حسبما أشارت شركة فرنتلاين المحدودة Frontline Ltd، أكبر شركة مالكة لناقلات النفط على مستوى العالم. وتتنوع الأسباب وراء إقدام مختلف العناصر المشاركة بالحقل النفطي على تخزين النفط، سواء داخل منشآت على البر أو بالبحر. ومن جانبها، تأمل شركات النفط الوطنية في دفع الأسعار في الاتجاه المعاكس من خلال احتجاز النفط خارج السوق. وتشير بعض التقارير إلى أن إيران وحدها تستخدم ما يصل إلى 15 ناقلة في تخزين النفط الخام على أمل أن ترتفع الأسعار بما يعزز اقتصادها المعتمد على الصادرات النفطية. وتقوم شركات الاتجار الخاصة مثل فيتول وفيبرو بتخزين النفط بناءً على توقعها بارتفاع الأسعار في وقت لاحق. وتحصل هذه الشركات على المؤشرات التي تبني عليها سياساتها من الأسواق حيث يقوم التجار ببيع وشراء عقود البيع الآجل للنفط، والتي تشير إلى أسعار أعلى تلوح في الأفق. ومن جهته، أشار آدام سيمنسكي، الخبير الاقتصادي البارز في دويتش بنك، إلى أن أية شركة اتجار في النفط بإمكانها شراء النفط بسعره السوقي الحالي البالغ 40 دولاراً للبرميل وتخزينه وبيعه من خلال عقد يقضي بتسليمه في غضون عام مقابل حوالي 60 دولاراً للبرميل. وقال: «أنت تدفع ما يتراوح بين 6 و10 دولارات للبرميل كي تخزنه، ويمكنك جني 10 دولارات من وراء ذلك»، منوهاً بأن ذلك السبب وراء الإقبال على استئجار الناقلات. وتحمل شركة ديفون إنرجي كوربوريشن، ومقرها أوكلاهوما سيتي، مثالاً على كيفية تأثير الشكوك المحيطة بأسعار النفط على سلوك الشركات. يذكر أن ديفون إنرجي كوربوريشن أثارت اهتمام السوق العالمي خلال السنوات الأخيرة للطاقة بإعلانها عن استثمارات جديدة ضخمة بمجال استخراج النفط الرملي في كندا، علاوة على مشروعات تنقيب في أعماق بعيدة تحت سطح البحر. ومؤخراً، أرجأت الشركة الإعلان عن تفاصيل برنامجها لعمليات التنقيب. في هذا الصدد، قال تشيب منتي، المتحدث الرسمي باسم الشركة: «تخلق تقلبات الأسعار التي شهدناها العام الماضي، خاصة الأشهر القليلة الأخيرة، مزيدا من الصعوبة فيما يتعلق بوضع خطة لبرنامج نشاطات التنقيب يجري تمويله عبر تدفقات نقدية». ويأتي هذا الحذر الذي أبدته الشركة كمؤشر على تراجع الإقبال على الاستثمار النفطي لتظهر بدلاً منها توقعات أكثر تواضعاً. وجدير بالذكر أن كلا من شلمبرغر وهاليبرتون، أكبر شركتين بمجال الخدمات النفطية، تقلصان حالياً من أعداد العاملين لديهما. كما عمدت الكثير من الشركات النفطية إلى إرجاء تنفيذ خطط استثمارية تتعلق بمشروعات ذات تكلفة كبيرة، مثل نشاطات التعدين في مجال النفط الرملي بكندا. ويتهدد شبح الإفلاس معملي تكرير. وتنعكس تقلبات الأسعار على مستوى البيع بالتجزئة، فعلى سبيل المثال، نجد أن السائقين الذين لم يشعروا بالارتياح حتى أسابيع قليلة ماضية فقط من الارتفاع الشديد الذي شهدته أسعار البنزين بوصولها إلى 4 دولارات للغالون، تسيطر عليهم الدهشة الآن مع ارتفاع متوسط السعر الوطني للبنزين غير المكرر إلى 1.79 دولار، من مستوى 1.62 دولار منذ 30 ديسمبر (كانون الأول). ومن ناحية أخرى، أسفرت تقلبات أسعار النفط عن تعقيد جهود شركات إنتاج السيارات لرسم ملامح الاستراتيجيات المستقبلية. مثلاً، اضطرت تويوتا إلى تجميد الإنتاج داخل أحد المصانع التي تصنع شاحنات ثندرا لعدة شهور بسبب الارتفاع الشديد في أسعار البنزين الصيف الماضي. ثم أرجأت الشركة ذاتها إنجاز مصنع آخر يرمي لصنع سيارة بيروس المعتمدة على الوقود الهجين عندما أدى انحسار أسعار البنزين إلى إلحاق الضعف بالطلب على أنماط السيارات المتميزة بالترشيد في استهلاك الطاقة. علاوة على ذلك، تؤثر تقلبات الأسعار على صناعة الشحن والنشاطات التجارية الأخرى بمختلف أنحاء العالم. من ناحيتها، اعترفت كاثي باسيفيك، واحدة من الشركات العديدة الخاصة بالخطوط الجوية التي تتبع استراتيجيات تحوط تجاه تقلبات أسعار البنزين، بتكبدها خسائر على صعيد التحوط تقدر بمئات الملايين من الدولارات جراء انهيار أسعار الوقود.

يذكر أن التباطؤ في الاستثمارات النفطية بطيء يحدث بسرعة بالغة دفعت بعض المحللين إلى الإعراب عن اعتقادهم بأن الأمر برمته مجرد مسألة وقت قبل أن يظهر نقص في العرض يدفع أسعار النفط إلى مستويات مرتفعة جديدة وتضر بالاقتصاد. من يوم لآخر، تعكس التقلبات في الأسعار جذب وشد بين العديد من العناصر المرتبطة بالسوق، وتباين التوجهات الجيوسياسية والاقتصادية التي تظهر على السطح. بعد شهور من التراجع الحاد في الأسعار، بدا أن المشاعر السائدة داخل أسواق النفط تحولت بعد أعياد رأس السنة ـ ما دفع أسعار النفط إلى مستوى يقارب 50 دولاراً للبرميل في يناير (كانون الثاني)، بعد أن كان أدنى قليلاً عن 34 دولاراً في 19 ديسمبر (كانون الأول). وأعاد التجار توجيه الأموال للاستثمار بمجال النفط في الوقت الذي أبدت منظمة أوبك جديتها حيال خفض الإنتاج. ويبدو أن القتال الدائر بين إسرائيل وحركة «حماس» في قطاع غزة تهدد باندلاع صراع أوسع نطاقاً داخل الشرق الأوسط قد يعوق إمدادات النفط. كما انطوى النزاع الذي اشتعل بين روسيا وأوكرانيا حول شحنات الغاز الطبيعي على تهديد للإمدادات الموجهة إلى أوروبا، ما أثار المخاوف من أن الأوروبيين ربما يتحولون من الغاز الطبيعي إلى النفط. لكن سرعان ما تحول الشعور العام في الأسبوع الماضي عندما أعلنت وزارة الطاقة أن مخزونات النفط داخل مدينة كشنغ قفزت بمقدار أربعة ملايين برميل لتصل إلى 32 مليون برميل خلال الأسبوع المنتهي في الثاني من يناير (كانون الثاني)، وهو المستوى الأعلى منذ بدء الحكومة رصد مستويات الإمدادات عام 2004. وقفز هذا الرقم مجدداً في تقرير صدر الأربعاء إلى 33 مليون برميل، ما يقترب من قدرة التشغيل داخل كشنغ البالغة 35 مليون برميل. ومع ظهور مؤشرات على وجود فائض، دب الفزع في قلوب التجار الذين دفعوا سعر البيع الفوري للنفط إلى 37.28 دولار للبرميل يوم الأربعاء، ما يشكل انخفاضا بنسبة 1.3%. في تلك الاثناء، ارتفعت أسعار البنزين عند ضخه بسبب تقليص معامل التكرير من إنتاجها له. وقد تضاءلت الأرباح بدرجة بالغة على مدار الشهور العديدة الماضية بحيث باتت معامل التكرير تجني قدرا ضئيلا للغاية من الأرباح، ، بل ربما تخسر أموالا من وراء إنتاج البنزين. وبذلك يتضح أننا في الوقت الراهن نخزن النفط أو نبيعه للتجار، أو نحد من إنتاج معامل التكرير للبنزين ونزيد إنتاجها من المنتجات التي تحقق هامش ربح أعلى، مثل الديزل وزيوت التدفئة ووقود الطائرات. من ناحيتها، قلصت فاليرو إمدادات البنزين من خلال إطالة أمد الفترة المخصصة للصيانة داخل بعض معامل التكرير والحد من الإنتاج داخل ثمانية من إجمالي 16 معمل تكرير تملكها. وقال بيل داي، المتحدث الرسمي باسم فاليرو، أكبر شركة لتكرير النفط على مستوى البلاد، إن: «هناك الكثير من الحوافز في الوقت الراهن لإنتاج البنزين لتوافر قدر كبير منه. وبينما توقعت غولدمان ساشز أن يسفر تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي قريباً عن دفع أسعار النفط نحو الانخفاض لتصل إلى 30 دولاراً للبرميل، توقع مسؤول نفطي بارز في الكويت مؤخراً أن ترتفع أسعار النفط مجدداً في وقت قريب نتيجة إجراءات خفض الإنتاج التي أقرتها منظمة أوبك.

* خدمة «نيويورك تايمز»