مبارك: مأساة غزة استُغلت لاختراق العالم العربي.. ولا مجال في علاقاتنا للالتواء والتطاول والتخوين

قال إن دور مصر لرعاية القضية الفلسطينية يتحدث عن نفسه.. يسعى إليها ولا تسعى إليه كحال من يتطلع للعب الأدوار

TT

أعرب الرئيس المصري حسني مبارك في كلمته أمام قمة الكويت الاقتصادية عن الأسف لأن يسمح العرب باستغلال مأساة غزة «لاختراق العالم العربي». وقال الرئيس المصري في كلمته أمس «من المؤسف أن نسمح باستغلال مأساة غزة لاختراق عالمنا العربي بقوى من خارجه تتطلع للهيمنة وبسط النفوذ وتتاجر بأرواح الفلسطينيين ودمائهم». وأكد الرئيس المصري من جهة أخرى أن بلاده ستواصل سعيها للمصالحة بين الفلسطينيين ومن أجل رأب الانقسام العربي. وأضاف أن «العلاقات العربية - العربية ليست في أحسن أحوالها.. لا مجال في هذه العلاقات للالتواء والتطاول ولا مجال للتخوين وسوء القول والفعل والتصرف وكأننا نعود بعالمنا العربي إلى الوراء». وتابع أنه «من المؤسف أن يعمل البعض إلى تقسيم العرب إلى دول اعتدال ودول ممانعة» متسائلا «هل هي عودة إلى جبهة الرفض خلال سبعينات القرن الماضي».

وهنا نص كلمة الرئيس حسنى مبارك: صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح..

أصحاب الجلالة والسمو والفخامة.. السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية.. الإخوة والأخوات.. أعبر عن الشكر والتقدير لأخي سمو أمير دولة الكويت وشعبه الشقيق لاستضافة هذه القمة الاقتصادية الهامة.. متطلعاً لأن تسهم فى تحقيق ما نصبو إليه لبلادنا وشعوبنا وأمتنا.. تلك هي القمة العربية الأولى لتناول قضايا الاقتصاد والتنمية، وما يتصل بها من أبعاد اجتماعية. وهى قضايا بالغة الأهمية تتصل - فى مجملها - بحاضر عالمنا العربي ومستقبله.

تنعقد هذه القمة وسط أزمة عالمية حادة يجتازها اقتصاد العالم، دخلت به مرحلة ركود، تهدد ما حققناه من إنجازات النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، لا تفرق بين دول غنية أو فقيرة، وتحمل أوقاتاً صعبة وتداعيات خطرة لمنطقتنا ولغيرنا على اتساع العالم.

كما تنعقد هذه القمة وعالمنا العربي يجتاز مرحلة عصيبة ويتعرض لمخاطر وتحديات عديدة، ما بين العدوان الإسرائيلي على (غزة) وتداعياته، والانقسام الحادث على الساحة الفلسطينية وعواقبه، وما تشهده الساحة العربية من تشرذم ومزايدات ومحاور وما يتنازعها من محاولات - تأتى من داخلها وخارجها - للعب الأدوار وبسط النفوذ، تتاجر بمعاناة الشعب الفلسطيني وقضيته، تستخف بأرواح شهدائه ودماء أبنائه، وتمعن فى شق الصف العربي وإضعافه.

لقد هزت مأساة غزة ضمير العالم بما أوقعه عدوان إسرائيل من شهداء وضحايا، وما أدى إليه من تدمير واسع النطاق للبنية الأساسية ومقومات الحياة.

امتحنت هذه المأساة عملنا العربي المشترك، فكشفت الكثير من أوجاعه وتناقضاته ومعايبه، وأوضحت - للأسف - انقسام عالمنا العربي واختراقه وتشتته.

كان منطق الأمور يملى علينا الوقوف إلى جانب (غزة) بمواقف جادة تعي خطورة العدوان وشراسته وتسعى لإيقافه واحتواء تداعياته الإنسانية بعيداً عن المزايدة والشعارات الجوفاء.

كنت متطلعاً لأن تتكامل جهودنا، ولأن نلتف معاً حول موقف عربي واحد يعلي مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته فوق مصالح الفصائل، يضع أولوية وقف العدوان وحقن الدماء فوق الخلافات العربية والمصالح الضيقة وينأى عن حملات التشهير والتخوين.

لقد رعت مصر القضية الفلسطينية عبر ستين عاماً بمسؤولية وأمانة وبدور يسعى إليها بما لها من قدر ومكانة، وبما تمتلكه من قدرات وإمكانات. دور يتحدث عن نفسه، يسعى إليها ولا تسعى إليه كحال من يتطلع للعب الأدوار.

من المؤسف أن يعمل البعض على تقسيم العرب بين (دول الاعتدال) و(دول الممانعة) كأننا لا نتعلم من أخطاء الماضي ودروس التاريخ القريب، وكأننا نعود بالعالم العربي ثلاثين عاماً إلى الوراء. هل هي عودة لـ(جبهة الرفض) خلال سبعينات القرن الماضي؟ أولم نعتمد معاً وبالإجماع في بيروت مبادرة عربية للسلام العادل والشامل؟

ومن المؤسف أن نسمح باستغلال مأساة غزة لاختراق عالمنا العربي بقوى من خارجه، تتطلع للهيمنة وبسط النفوذ وتتاجر بأرواح الفلسطينيين ودمائهم.

وعلى أية حال فإن مصر كعهدها تترفع دوماً عن الصغائر ولا تخضع أبداً للابتزاز، وأحمد الله أنني آتي إلى هذه القمة، وقد تمكنت مصر من التوصل لاتفاق يحقن دماء الفلسطينيين، يوقف إطلاق النار ويفتح الطريق لانسحاب القوات الإسرائيلية، واستعادة التهدئة فى غزة، وفتح معابرها ورفع حصارها.

الإخوة والأخوات:

نعم لقد جاءت مأساة «غزة» كاشفة للوضع العربي الراهن، وعلينا أن نعترف بالحاجة لوقفة صدق ومصالحة مع النفس تتمعن فى أحوال عالمنا العربي وتجتهد للالتقاء على كلمة سواء.

إن العلاقات العربية - العربية ليست فى أحسن أحوالها، والعلاقات بين الإخوة الأشقاء لابد أن تقوم على الوضوح والمصارحة، وتطابق الأقوال والأفعال. لا مجال في هذه العلاقات للالتواء والتطاول ولا مجال للتخوين وسوء القول والفعل والتصرف، وكأننا نعود بعالمنا العربي إلى الوراء بدلا من أن ندفع به معاً إلى الأمام.

لقد كان الموقف المصري قوياً وواضحاً منذ اليوم الأول للعدوان على غزة برغم مغالطات البعض وتجاهلهم لحقائق معروفة وأخرى غائبة.

تعلمون جميعاً الجهود التي بذلتها مصر لتمديد التهدئة وتحذيرها من أن رفض الفصائل لتمديدها هو دعوة مفتوحة لإسرائيل للعدوان، بل والادعاء بأن عدوانها حرب دفاعية لحماية مواطنيها من صواريخ المقاومة. كما تعلمون جميعاً، ما بذلته مصر لتحقيق الوفاق الوطني الفلسطيني، وتدخل البعض بضغوط - نعلمها - لإجهاض جهودنا، تكريساً للانقسام الراهن وسعياً للنيل من شرعية السلطة الفلسطينية، ومنحها للفصائل.

لقد استمر اللغط حول فتح معبر (رفح) بالتجاهل لحقيقة أنني أمرت بفتحه منذ اليوم الأول للعدوان، ولا يزال مفتوحاً أمام المساعدات والأطقم الطبية والجرحى حتى هذه اللحظة، وتواصل هذا اللغط بالتغافل عن حقيقة أن المعبر لم يكن ضمن خطة (شارون) للانسحاب من غزة وأنني كنت من تمسك بإقامة معبر (رفح) ليكون منفذاً للقطاع من مصر وإليها إلى جانب المعابر الستة الأخرى بين غزة وإسرائيل.

وعلى عكس ما غاب عن البعض فقد كان حاضراً في وعي مصر وتحركها ما تروج له إسرائيل من أن غزة أرض محررة.. تنصّلا من مسؤوليتها القانونية والسياسية عن القطاع باعتباره أرضاً محتلة، وهو ما يجب أن يستدعي لأذهاننا ترويج إسرائيل لمقولة (غزة أولا) ولمفهوم (الخيار الأردني) وكلاهما بالنسبة لمصر - ولنا جميعاً - أراضى محتلة تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة.. طال الوقت أو قصر.

لقد حاول البعض أن يضع مصر فى مواجهة مع المقاومة وأقول لهؤلاء إن (منظمة التحرير الفلسطينية) انطلقت من القاهرة ودعمت مصر رموزها وفصائلها عبر سنوات طويلة. إننا ندعم حق الشعوب فى مقاومة الاحتلال، ونحترم إرادة المقاومة الفلسطينية وصمودها، لكننا نؤمن أن المقاومة - كقرار الحرب - لابد أن تخضع لحساب الأرباح والخسائر، ولابد أن تكون مسؤولة أمام شعوبها تحكم لها أو عليها بقدر ما تحققه من مكاسب لقضاياها أو تتسبب فيه من ضحايا وآلام ومعاناة.

هناك من فصائل المقاومة من يعترف بأن ميزان القوى الدولي الراهن ينحاز انحيازاً واضحاً لإسرائيل ويدعون للانتظار لحين بزوغ نظام دولي أكثر عدالة حتى لو استغرق ذلك عقوداً طويلة، فهل يستقيم هذا المنطق؟ هل تحتمل معاناة الشعب الفلسطيني هذا الانتظار؟ وهل يستمر فى الانتظار والاستيطان يقتطع الأراضي المحتلة يوماً بعد يوماً؟ وإلى متى نسمح بأن تظل القضية الفلسطينية قضية الفرص الضائعة؟.

لقد رأينا منذ اليوم الأول للعدوان أن (غزة) لا تحتاج لبيانات الشجب والإدانة قدر احتياجها لتحرك عملي عاجل يوقف الاعتداءات الإسرائيلية ويحقن الدماء. طرحت مصر المبادرة الوحيدة للخروج من الأزمة - فى غياب أية مبادرات أخرى، وفى مواجهة مماطلة مجلس الأمن الدولي - تحركت مصر لاحتواء التداعيات الإنسانية للأهل فى غزة ودفعت بأكثر من (3000) طن من مساعدات الغذاء والدواء من معبري رفح والعوجه منذ بدء العدوان وحتى الآن.

إن علينا أن نحاذر من اختزال القضية الفلسطينية فى غزة واختزال غزة فى المعابر واختزال المعابر السبعة فى معبر رفح. إن القضية الفلسطينية أكبر من ذلك بكثير. إنها قضية شعب يعانى منذ عام 1948 يتطلع لانتهاء محنته والتخلص من الاحتلال وقيام دولته المستقلة. وسيحكم التاريخ على قادته - وعلينا جميعاً - بقدر ما نقرّبه أو نبعده عن هذا التطلع المشروع.

سنبذل في ذلك كل جهد ممكن، فإن تحققت المصالحة فذلك هو الخير لشعب فلسطين وقضيته، وإن لم تتجاوب الفصائل مع جهودنا فسنقول لهم إن الله يساعد الذين يساعدون أنفسهم. وإن مصر ستبقى مفتوحة الذارعين لكم باباً وملاذاً وجهوداً صادقة وفاعلة.

الإخوة والقادة العرب:

إنني أحيى صمود الشعب الفلسطيني فى غزة وأحتسب عند الله أرواح شهدائه. وأقول للأهل فى القطاع إن مصر ستظل بجانبكم فى محنتكم، لن نهدأ حتى تنسحب قوات إسرائيل ويعاد فتح المعابر ويرفع الحصار. سنواصل فتح معبر رفح أمام جرحاكم وأمام مساعدات الإغاثة. وسندعو لمؤتمر دولي لإعادة إعمار ما دمره العدوان.

أقول لإسرائيل، إن غطرسة القوة لن تقهر المقاومة ولن تفرض الخضوع على شعب فلسطين، أقول لقادتها إن أمن شعبكم يتحقق بالسلام وليس بالطائرات والدبابات.

وأقول لهم إن القضية الفلسطينية سوف تنتصر فى النهاية، وإن الاحتلال مصيره إلى زوال.

وأقول للمجتمع الدولي والقوى الكبرى على وجه الخصوص، إن عملية السلام ظلت تراوح مكانها سنوات طويلة، وإن عليهم تحمل مسؤوليتهم في إنهاء الاحتلال على نحو جاد دون إبطاء. أقول لهم إن العرب طلاب سلام عادل وشامل، يقيم الدولة الفلسطينية المستقلة ويحرر كافة الأراضي العربية المحتلة. أقول إن سلام الشرق الأوسط ضرورة عاجلة لا تحتمل الانتظار، وإن تأخر السلام يزيد مشاعر كراهية شعوبنا تجاه إسرائيل ومشاعر الغضب تجاه من يتحدثون عن السلام ولا يقرنون الأقوال بالأفعال. وأقول لهم إننا قد طرحنا (مبادرة عربية) للسلام منذ قرابة السبع سنوات وحان الوقت لأن يتم التجاوب والتعامل معها، وأن تؤخذ من جانب إسرائيل والقوى الدولية الكبرى على محمل الجد.

أصحاب الجلالة والسمو والفخامة:

لقد احتضنت مصر قضايا أمتها – ولا تزال - بصدق وتجرد، ودعمت العمل العربي المشترك على كافة أصعدته ومحاوره، وسوف تظل. إنني آتي إلى هذه القمة موقناً بأن الوضع العربي الراهن بانقسامه وخلافاته ومحاوره لابد أن يتغير، واثقاً أن الخلافات العربية - أياً كانت – لا تستعصي على الحل بالجهود المخلصة والعزيمة الصادقة، فهي فى النهاية خلافات بين أشقاء. وكعهد مصر مع أشقائها عبر عقود طويلة فإنها ستبذل أقصى طاقتها لرأب الصدع العربي الراهن، ولتضع نهاية للخلافات العربية القائمة، كي نلتقي جميعاً حول ما يجمعنا، لا ما يفرق شملنا.

وإنني على يقين من أننا سوف ننحاز فى نهاية المطاف لهويتنا العربية وأهدافنا الواحدة ومصالحنا المشتركة، ويظل اقتناعي أكيداً بأنه لا يصح إلا الصحيح، وبأن مستقبل عالمنا العربي وتضامنه سيكون بعون الله وتوفيقه أفضل مما هو عليه الآن.

أتوجه مجدداً بالتحية والتقدير لأخي سمو أمير دولة الكويت، وأتمنى أن تكون هذه القمة فاتحة خير، تضع عملنا العربي المشترك على مسار جديد وتخطو به خطوات إلى الأمام.