«دهارافي» أكبر أحياء الفقراء في مومباي.. تحت المجهر

بعد نجاح «المليونير المتشرد» المرشح لعدد من جوائز الأوسكار ..والبافتا غدا

الحي يضم بين جنباته هندوسا ومسلمين ومسيحيين وبوذيين وغيرهم من أبناء ديانات أخرى يعيشون جنبا إلى جنب في مناخ عام يسوده السلام (رويترز)
TT

كان من شأن النجاح الذي حققه الفيلم البريطاني «المليونير المتشرد»، والذي تدور قصته حول انتقال صبي ينتمي إلى إحدى ضواحي مومباي من الفقر إلى الثراء، تركيز الأنظار على «دهارافي»، أكبر حي للفقراء في مومباي، العاصمة المالية للهند. وقد جعل الفيلم، الذي نال عدة جوائز وترشح لعدد من جوائز الأوسكار، من هذا الحي الذي يعاني من حالة مزرية ويقوم على دماء وعرق أبنائه، نقطة جذب محورية يرغب كل من شاهد الفيلم أو سمع به في التعرف عليها.

وعليه، سنحاول رسم صورة الحياة داخل هذا الحي الفقير، الذي يضم بين جنباته هندوسا ومسلمين ومسيحيين وبوذيين، وغيرهم من أبناء ديانات أخرى يعيشون جنبا إلى جنب، في مناخ عام يسوده السلام. وحسب الإحصاءات، فإن المسلمين يشكلون 40 في المائة من سكان حي دهارافي. ويتألف الحي من مجموعة من الأحياء الممتدة في صورة تشبه شكل القلب، ويشتهر المكان اليوم بكونه «أكبر أحياء آسيا الفقيرة». ويضم الحي مزيجا مثيرا من القرى والمناطق السكنية والهويات اللغوية والدينية والطبقية من مختلف جنبات الهند. يذكر أن النواة الأولى للحي تمثلت في قرية صغيرة للصيادين ظهرت في منتصف القرن العشرين. أما الآن، فيشغل الحي مساحة أقل من نصف مساحة سنترال بارك في نيويورك، بينما يكافئ من حيث عدد السكان مدينة هلسنكي.

في البداية، شكل دهارافي منطقة مستنقعات يقطنها مجتمع تقليدي من الصيادين. إلا أنه بمرور الوقت، جفت المستنقعات، وبذلك حُرمت قرية دهارافي من مورد رزقها التقليدي. ومع ذلك، وفرت مناطق المستنقعات الجافة حديثا مساحة سمحت بانتقال مجتمعات جديدة.

منذ ما يزيد على 100 عام ماضية، انتقل أحد المسلمين من ولاية تاميل نايدو الهندية الجنوبية إلى دهارافي. وسعيا إلى توسيع نشاطه التجاري، جلب المزيد من العمال من بلدته الأصلية. وبمرور الوقت، اشتهرت دهارافي بصناعتها الجلدية حتى تم إغلاق المدابغ بسبب التلوث.

وتعيش عائلة ملك يوسف، تاجر الجلود، هنا منذ فترة نيل الهند لاستقلالها عام 1947. ووُلد يوسف هنا أيضا. وكما هو الحال مع جيرانه، يعيش في كوخ صغير لا يتناسب مطلقا مع حجم أسرته المؤلفة من عشرة أشخاص.

يقول يوسف: «عندما كنت في مراحل العمر الأولى، كانت تلك مساحة خالية. كان الناس يخشون المجيء إلى دهارافي. كانوا ينظرون إليها كأنها غابة».

كان جد يوسف انتقل للعيش في دهارافي قادما من ولاية تاميل نايدو وأسس بها صناعة دبغ الجلود. وبمرور الوقت ازدهرت صناعة دبغ الجلود بصورة كبيرة. لكن اليوم، لم يعد بالمنطقة سوى بضع مدابغ قديمة. ورغم ذلك، لا يزال للصناعة وجود على الصورة العامة للمنطقة من خلال صالات العرض القائمة بالطريق الرئيسي والتي تضم الكثير من العلامات التجارية الشهيرة.

إضافة إلى ذلك، أقام حرفيون آخرون قادمون من ولاية كوجارات مستعمرة لصناع الخزف، بينما شرع عمال التطريز القادمين من أتار براديش في بناء تجارة بيع الملابس الجاهزة.

ومن بين الحقائق التي يفضل الكثيرون تجاهلها، أن دهارافي تشكل نصف مومباي، وأن سكانها اضطروا إلى العيش في هذه المنطقة لأجيال بسبب الصدفة والظروف. وتعج المنطقة بقصص لرجال ونساء تمكنوا من البقاء في المنطقة والعيش بها رغم ما عانوه من لا مبالاة السلطات. وداخل مومباي، مرتفعة التكاليف، توفر دهارافي بديلا رخيصا حيث تصل تكلفة استئجار المساكن إلى ما يعادل 4 دولارات أميركية شهريا، ويعيش بالمنطقة بعض المهنيين المنتمين إلى الطبقة الوسطى، مثل الأطباء والمحامين والمحاسبين وأعضاء الأحزاب السياسية.

والواضح أن دهارافي لا تنام أبدا بسبب حركة سيارات الأجرة التي يأتي سائقوها في وقت متأخر من الليل لتركها في ممرات ضيقة. ويرجع الكثيرون منهم إلى منازلهم في أوقات متأخرة من الليل بعد انتهائهم من نوبة العمل في فترة منتصف الليل، ثم يعاودون العمل في الخامسة صباحا.

لدى دخولك دهارافي، تجد في استقبالك أطفالا حفاة مبتسمين يلعبون بعرائس ودمى بلاستيكية مكسورة، بينما تجول الفئران في المكان في وضح النهار. وتخرج من المكان رائحة كريهة يصعب تحملها.

أما إذا تحليت بالصبر وأمعنت النظر في ما حولك، فستجد هنا أحد أكثر النماذج الاقتصادية إلهاما على مستوى آسيا، فرغم كون دهارافي أحد أكبر الأحياء الفقيرة عالميا، فإنها أيضا أكثرها رخاء، حيث تشكل مركزا للنشاطات التجارية الرائجة يقوم على الآلاف من «رجال الأعمال» الذين يملكون مشروعات متناهية الصغر، والذين نجحوا في خلق صناعة لا تقدر بثمن، اعتمادا على النفايات الخاصة بمومباي، البالغ إجمالي عدد سكانها 19 مليون نسمة. وتتضمن النشاطات التجارية داخل دهارافي صناعات إعادة تدوير النفايات ودبغ الجلود والأعمال المعدنية الثقيلة والصناعات الخشبية والسلع المصنعة، مثل الملابس والأحذية والأمتعة والحلي. وعادة ما تخدم الصناعات القائمة بالمنطقة أرجاء مومباي كافة، بل ويجري طرح الكثير من المنتجات في الأسواق العالمية. ويشير أحد التقديرات المحافظة إلى أن القيمة السنوية للمنتجات الصادرة عن دهارافي تبلغ مليار دولار أميركي.

وداخل كل كوخ بالمنطقة، تجد أكثر من شخص منحنيا على العمل في أكوام من بطاريات السيارات وأجزاء الحواسب الآلية والمصابيح الفلوريسنت والحقائب البلاستيكية والورق، حيث يقومون بوضع كل عنصر في كومة خاصة به للإعداد لإعادة تدويره.

بوجه عام، داخل دهارافي ليس هناك ما يدعى نفاية لا قيمة لها، فعلى سبيل المثال، يتم وضع الدمى البلاستيكية المحطمة في أجهزة طحن كبرى، حيث يتم تقطيعها إلى أجزاء بالغة الصغر، ثم تُصهر وتوضع في قوالب دائرة متنوعة الألوان، وبذلك تصبح مهيأة لإعادة استخدامها في صنع العرائس.

وحتى داخل أصغر غرف المنطقة، دائما ما تجد موقد طهي يعمل بالغاز وإمدادات مستمرة من الطاقة الكهربية. ويملك الكثير من سكان المنطقة أجهزة تلفاز ملونة ووصلات لقنوات الكابل، بل إن بعضهم يملك أجهزة تشغيل شرائط الفيديو.

وتتضمن الورش القائمة بالمنطقة كل شيء يمكنك تخيله، بداية من أجهزة صهر الألمونيوم التي تعمل على إعادة تدوير العبوات المعدنية للمشروبات الغازية، وحتى التعامل مع أوعية ضخمة من فضلات الصابون التي تم جمعها من العبوات الملقاة مع مناطق جمع النفايات والفنادق المحلية. ومع التجول داخل دهارافي التي تضم بين جنباتها 1,500 مصنع مؤلف من غرفة واحدة، تتولد لديك صعوبة في تخيل وجود أي شيء لا يجري تصنيعه أو إعادة تدويره هنا.

بالقرب منك ستجد صانعي الصابون الذين يعكفون على إعادة معالجة الصابون الذي يتم جمعه من الفنادق والمستشفيات. وداخل الكثير من الغرف تجد رجالا يتصبب العرق من أجسادهم بسبب الحرارة الصادرة عن أحواض معدنية ضخمة تمتلئ بسائل أخضر يميل لونه إلى الاصفرار.

داخل غرفة صغيرة، يجري صنع الخيوط المستخدمة في العمليات الجراحية، وتتمثل المهمة الرئيسية للعمال في تنظيف أمعاء الماعز ومعالجتها بماء مملح، ثم تجفيفها وإرسالها إلى شركة «جونسون آند جونسون» لتمريرها عبر المزيد من عمليات المعالجة، وأخيرا إنتاجها في صورة خيوط جراحية.

وبصورة عامة، يمكن القول بأن دهارافي تعد قصة نجاح غير عادية، حيث يعمل بصناعة إعادة التدوير التي تحتضنها ما يزيد على 250,000 شخص، منهم 100,000 يفدون على المنطقة ويخرجون منها بصورة يومية.

ومن بين الصناعات الأخرى المزدهرة داخل المنطقة صناعة الخزف، ويحقق العاملون بهذا المجال عائدا يوميا يقدر بـ100,000 روبية (ما يعادل 2500 دولار). ويتراوح متوسط داخل الأسرة في دهارافي حاليا بين 3,000 و15,000 روبية شهريا، وهو أكبر بكثير من متوسط أجور العاملين بالقطاع الزراعي.

في الواقع، لقد أدت هذه الأموال إلى ظهور طبقة عليا جديدة في أجزاء من دهارافي، الأمر الذي انعكس على ظهور حانات وصالونات تجميل ومحال للملابس الجاهزة. وفي الشهر الماضي، قام أحد المصارف بافتتاح أول منفذ لأجهزة الصرف الآلي داخل الحي.

من ناحيته، اقترح موكيش مهتا، المهندس المعماري الذي تلقى تدريبا في الولايات المتحدة، خطة لتحقيق تنمية حضرية بالمنطقة. وبالفعل، أعلنت الحكومة عن مناقصات عالمية لهذا الغرض. وتتضمن الخطة بناء مساكن ومدارس ومتنزهات وطرق على مساحة إجمالية تبلغ 30 مليون قدم مربع لخدمة الأسر الـ57,000 المقيمة بالمنطقة، علاوة على 40 مليون قدم مربع مخصصة للمباني السكنية والتجارية معروضة للبيع. وقد قوبلت هذه الخطة بمعارضة محلية قوية، نظرا إلى أن المقيمين بالمنطقة سيحصل كل منهم على 225 قدما مربعا فقط (20,9 متر مربع). إلى جانب ذلك، فإن الأسر التي كانت تقيم بالمنطقة قبل عام 2000 هي فقط المؤهلة لإعادة التوطين. كما أعرب بعض سكان المنطقة عن مخاوفهم من أن لا تشمل الخطة التنموية مساحة لبعض نشاطاتهم التجارية في القطاع «غير الرسمي». أما الحكومة فأكدت على أنها ستعمل على تقنين وإعادة توطين الصناعات غير الملوثة فقط.