نهضة في مهنة «الحِنانة» بالسودان.. رائداتها الجامعيات

بينهن الطبيبة والمهندسة والمحامية

الأشكال والرسوم أصبحت أكثر تماشيا مع المناسبات ونوعية الزبونات وظروف عملهن («الشرق الاوسط»)
TT

عندما اتصلت «الشرق الأوسط» هاتفيا بالأستاذة المحامية «ن» لتحديد موعد، لم يكن الغرض طلبها لمشورة قانونية أو لعرض قضية تتطلّب وقوفها في المحكمة. أيضا لم يكن هدفنا من الحديث مع المهندسة المعمارية «س» يتعلق بخريطة بناء منزل. وهكذا تكرّر الحال في لقاءاتنا مع أكثر من خريجة جامعية من جامعات معترف بها في مجال من المجالات التي تحتاج تخصصا ودراسة جادة، على الأقل لأربع سنوات.. بل خمس في حالة طبيبة الأسنان والمهندسة. الغاية من الالتقاء بهذه الباقة من الجامعيات السودانيات كانت، في الواقع، الوقوف على تجربتهن الخاصة جدا، إذ جمعتهن هواية واحدة هي حب الحِنّاء. وبسببها تركن مهنهن ليصبحن حنّانات محترفات، يقدمن خدماتهن مقابل أسعار محددة لمن تطلبها من السيدات. وهذه ظاهرة جديدة يشهدها باطّراد المجتمع النسائي، في العاصمة السودانية «المثلثة» الخرطوم، مع أم درمان والخرطوم بحري.   عند الحديث معهن أشرن واحدة تلو الأخرى، إلى أن ولوج الخريجات مجال الحِنّاء ليس جديدا بل يعود بصورة منفردة لأكثر من عقدين مع بداية الأستاذة عفاف النجومي، خريجة معهد الموسيقى والمسرح - وحفيدة عبد الرحمن النجومي، أحد أبطال الثورة المهدية - التي شقت طريقها وسارت قدما يوم كان العمل كحنّانة مهنة لمن لا مهنة لها. وذكرن أن الأمر توسّع في السنوات الأخيرة، وانتشر مع انفتاح المجتمع وتقبّله ظواهر كثيرة ما كانت مقبولة في الماضي، وبالأخص في ظل قلة فرص العمل، وكثرة الخريجين، وتواضع العائد المادي للوظيفة التقليدية والمملة بسبب الروتين والبيروقراطية. وأكدت الجامعيات أنهن حتى مع تفضيلهن العمل في مجالات غير أكاديمية فإن تعليمهن ينعكس في طريقتهن بممارسة مهنة الحنانة. ولا سيما، في سعيهن لتطوير المهنة وترقيتها، حتى أصبح العمل في مجال الخضاب بالحناء أكثر تخصصا، ويتبع أساليب عصرية منها الكتالوغات الفخمة لعرض الرسوم التي تطمئن الزبونات، وتساعدهن في اختيار الرسم الذي يطلبنه بدقة ووضوح. وأضفن أنهن أدخلن استخدام جهاز الحاسوب (الكومبيوتر) لمزيد من الإيضاح والسرعة في تعديل الأشكال إلكترونيا، وفق طلب الزبونة التي تطلع وتوافق عليها قبل البدء بعملية الرسم، بدلا من الأسلوب التقليدي بالرسم مباشرة. وهذا – كما يقلن - يضع الزبونة أمام الأمر الواقع في حال لم تعجبها الرسمة التي لا مجال للخلاص منها إلى أن تنمحي طبيعيا بعد أسبوعين أو ثلاثة.   ثم هناك مظاهر أخرى من أساليب التحديث والتطوير والسرعة، كوصول الحنّانة إلى منزل الزبونة في الموعد المحددة بدقة شديدة.. وهي تقود سيارتها بنفسها، وانتشار الهاتف الجوال الذي ساعد كثيرا في سهولة الاتصال. ولم تغفل القانونية «ن» الإشارة لما لمقدرتهن التعليمية من أثر في إثراء «الونسات» والموضوعات التي تطرح للنقاش أثناء أدائهن عملهن. مؤكدة أن بيت الحنّانة ما عاد ذلك البيت التقليدي، بل غدا «صالونا» يقوم على أسس التجميل الحديث  .

لم تنكر الحنانات الجامعيات أن الإغراء المادي للعمل في مجال الحِنّاء كان من الأسباب الرئيسة لولوجهن هذا المجال، إذ إنهن يكسبن ما يفوق بمراحل ما قد يكسبنه من وظيفة تقليدية. فرسم الحِنّاء مهما كان اختيار الزبونة لشكل صعب وثقيل فلن يستغرق أكثر من دقائق معدودات لتزيين الكفين والقدمين معا، وذلك مقابل ما قد يتراوح بين 80 و60 ألف جنيه سوداني على أقل تقدير. مع ملاحظة، أن بإمكان الحنّانة أن ترسم في الأيام العادية لأكثر من 12 زبونة في اليوم الواحد.. أي هناك ربح صافٍ من دون ضرائب أو عوائد.. مع كامل واجبات الضيافة وحسن الاستقبال، إن كان العمل في منزل الزبونة. فما بالك بكثافة العمل أيام المواسم والمناسبات كالأعياد وحفلات الزفاف عندما يزداد الطلب لدرجة لا تمكّن الحنّانات من إرضاء الجميع. من جانب آخر، استطلعت «الشرق الأوسط» آراء عدد من السيدات حول هذا الموضوع أكدن كلهن تقريبا أهمية «الحِنانة» في المجتمع السوداني. فعموما تلِج السودانية عالم الحِنّاء ليلة قبل زواجها، لتواصل المشوار بأشكال مختلفة ومتنوعة حتى آخر لحظة من حياتها، إلا في فترات الحداد على أقرب الأقربين أو لظروف قوية طارئة. وذكرن أن التزيّن بالحِنّاء لم يعد مجرد رغبة في مزيد من الجمال، بل أضحى مظهرا اجتماعيا، يعكس مدى اهتمام المرأة بحسنها ومظهرها لذاتها وللآخرين.  وشدّدت بعضهن على أن الحنّانة سواء كانت جامعية أو غير متعلمة لا بد أن تكون موهوبة في المقام الأول، وأيضا لطيفة المعشر وإلا فلن يطلبها أحد. ذلك أن السؤال: «حنّنتك منو؟؟» سؤال مهم جدا في عالم النساء. من جانبهن توضح الحنّانات أن الأشكال والرسوم أصبحت أكثر تماشيا وأنواع المناسبات ونوعية الزبونات وظروف عملهن. ومع ارتقاء ما اكتسبه فن التزين بالحناء ومهارة الحنّانات السودانيات خارج نطاق السودان، صارت هناك رسوم ونقوش تفضلها السيدات الخليجيات عموما، وسيدات المجتمع الخليجي الراقي بصفة خاصة. ورسوم للأوروبيات اللواتي يفضلن نقشا كالوشم (التاتو) تاتو في أجزاء مختلفة من الجسم.   ومما يذكر، ما كان الخضاب بالحِنّاء قبل بضع سنوات أكثر من مسحوق من أوراق شجرتها يخلط بالماء، ثم يوضع بواسطة الأصابع على القدمين والكفين لساعات وساعات إلى أن يغمق لونها.

ثم شيئا فشيئا أضيف لمسحوقها مواد خارجية كالنشادر، ثم أنواع من الأصباغ الصناعية والمواد الكيميائية. وأضحى الخليط يعبأ داخل قرطاس رفيع من النايلون أو باستخدام حقنة مما يساعد على عملية التشكيل والرسم والصباغ خلال فترة زمنية قصيرة. ولكن ثمّة من يرفض الأصباغ الصناعية لاعتبارات صحيّة قد تصل إلى خطر الموت في بعض الحالات. ولعلّ الحنّانات الجامعيات بإصرارهن على الامتناع عن استخدام حنّاء غير طبيعية يساعدن في زيادة الوعي العام.