الرئيس التنفيذي لـ«انفستكورب»: الوضوح والشفافية حيويان في بناء الثقة بين المؤسسات ومساهميها

قيردار لـ «الشرق الأوسط»: المصرف عرف أول خسارة مالية في تاريخه بسبب احتساب قيمة الأصول بالسعر السوقي الراهن

نمير قيردار العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لمصرف «انفستكورب» («الشرق الأوسط»)
TT

تمر المؤسسات المالية حول العالم بوضع حرج منذ تفاقم الأزمة المصرفية لتصبح الأزمة الاقتصادية الأبرز منذ عقود. وبينما أعلنت مؤسسات شهيرة مثل بنك «ليمانز» افلاساً تاماً، بقيت مؤسسات أخرى أكثر صلابة في وجه الأزمة رغم تكبد الخسائر. وشرح العضو المنتدب والرئيس التنفيذي لمصرف «انفستكورب» نمير قيردار ان الهدف للمؤسسات المالية اليوم هو «الاستمرارية»، مؤكداً ان ضمان ذلك يعتمد على موازنات صحية للشركات بدلاً من التركيز فقط على الربحية. وشرح قيردار في حوار مطول مع «الشرق الأوسط» وضع مصرف «انفستكورب» الذي يعلن نتائجه النصف سنوية اليوم، بالإضافة إلى وضع الأسواق الخليجية والعالمية. وشدد قيردار على أهمية الشفافية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية الحالية من اجل الإبقاء على الثقة التي أكد أنها ستكون «رأسمالنا»، التي ستخرج العالم من الكساد.

وفي ما يلي نص الحوار:

> أين يجد «انفستكورب» نفسه وسط الأزمة الاقتصادية الحالية؟

- «انفستكورب» ومنذ تأسيسه عام 1982 يعمل كجسر بين الفوائض المالية في الخليج العربي وفرص الاستثمارات غير التقليدية المتاحة في الدول الصناعية المتطورة، وهو برز على مدى ربع قرن من النجاحات وارتقى ليصبح من أنجح المؤسسات العاملة في الأسواق الدولية. وقد حقق البنك أرباحاً في كل سنة من السنوات الـ 25 الماضية، كما بلغ مجموع الأرباح النقدية التي تم توزيعها على المساهمين ما يعادل 5 اضعاف مساهمتهم الأولية في رأس المال. لكننا شهدنا خلال الأشهر الستة الأخيرة انهيارا شاملا في الأسواق المالية الدولية وهو ما أدى بدوره الى تدهور كبير في قيمة الموجودات أو الأصول الاستثمارية في كافة المراكز المالية الدولية. وبسبب تلك التطورات فإن الأشهر الستة المنتهية في 31 ديسمبر (كانون الاول) 2008 هو يوم التقويم أي بتاريخ 31 ديسمبر الماضي، بالأسعار الدنيا التي سببها الانهيار المالي. وبرغم أن السنة المالية الكاملة تنتهي عندنا في نهاية يونيو (حزيران) 2009 فاننا لا نتوقع تغيراً اساسيا في أسعار الأصول خلال تلك المدة المتبقية. هذا ومن المهم أن نوضح بأن الواردات في «انفستكورب» تأتي من مصدرين أساسين: الأول هو العمولات التي نتقاضاها عن أتعاب وعمليات وخدمات مالية، أما الثاني فيتمثل بالارتفاع في قيمة محفظة الأصول. وفي الحقيقة نحن حققنا ربحا صافيا من دخل العمولات خلال الاشهر الستة الأخيرة، لكننا سجلنا خسارة في المصدر الثاني بسبب الانهيار العام الذي أصاب أصول الشركات في العالم. > هل تبحثون عن فرص استثمار جديدة مع تراجع اسعار شركات في اوروبا والولايات المتحدة خلال العام الماضي وهل تنصحون آخرين بفعل ذلك؟

- من الناحية المبدئية، نعم يجب دائماً دراسة الفرص المطروحة، لكن بسبب عدم وجود التمويل الكافي وعدم وضوح الرؤية يجب انتظار الخروج من النفق. أولويتنا الآن المحافظة على وضعنا، لكن في الوقت نفسه، بدأنا ننظر للفرص التي يمكن استغلالها، فقد أطلقنا العام الماضي صندوق لاستثمار في الخليج مع صندوق سيادي من اجل الاستثمار في الخليج.

> هل كان في إمكان الشركات عمل المزيد لحماية نفسها من الوضع الراهن؟

- إن الشركات التي لم تركز فقط على تحقيق الارباح، بل أعطت الأولوية لتقوية الميزانية والتأكد من قوة رأس المال ووفرة السيولة وترتيب الالتزامات على أمد طويل، هذه الشركات هي التي ستكون في وضع أفضل. وهذا هو حال «انفستكورب» لأننا أتخذنا الاحتياطات المسبقة وركزنا دوما على قوة رأس المال والسيولة وإطالة آجال استحقاق الالتزامات المالية بحيث ان حاجتنا لإعادة تمويل الالتزامات للأشهر 12 المقبلة مغطاة بالكامل بسبب توافر السيولة. ولهذه الأسباب مجتمعة فإننا جاهزون أكثر من غيرنا لمواجهة التحديات الحالية > إلى أي درجة تأثرت الدول الخليجية بالأزمة؟

- لا بد للدول الخليجية عامة أن تتأثر بالأزمة الحالية لأنها بلدان ذات فوائض مالية وهي استثمرت تلك الفوائض في موجودات عالمية منها الأسهم والسندات والعقار، وكل هذه الأصول تعرضت لفقدان جزء من قيمتها بسبب الانهيار الحاصل. وفي هذا المجال نشر مصرف «دويتشه بنك» دراسة عن الصناديق السيادية في الخليج قدر فيها خسائر هذه الصناديق من جراء الأزمة بنحو 450 مليار دولار أي ما يعادل عوائد المنطقة من النفط طوال عام 2008.

أما القطاع الخاص في الدول الخليجية فقد تعرض للخسارة على صعيدين، الاول هو تدهور قيمة موجوداته واستثماراته الأجنبية، اما الثاني فهو الخسائر التي أصيب بها في أسهم الشركات المحلية التي هبطت أسعارها بمبالغ جسيمة، كذلك في استثمارات العقار.

> هناك مخاوف من نقص الشفافية حول ما يحدث في العالم العربي من جراء الأزمة المالية الدولية، فهل هناك سبب لهذه المخاوف؟

- إن الوضوح والشفافية أمران حيويان في بناء واستمرار الثقة في الأسواق وبين المؤسسات و مساهميها وكل من يتعامل معها في الأوساط الماليـة. لذلك فإن هذه المخاوف، إن وجدت، يجب أن تكون حافزاً لتلك المؤسسات التي تهدف إلى الاستمرار والازدهار مستقبلاً لممارسة المزيد من الشفافية والصراحة والوضوح لأن هذه الشفافية هي من أهم متطلبات النجاح وعلى الأخص في الشدائد والأزمات. إننا في «انفستكورب» نفخر بتمسكنا بمبدأ الوضوح والشفافية منذ اليوم الأول لانطلاقتنا، وها نحن نعلن نتائجنا المالية النصف سنوية مرفقة بمناقشة لأدائنا وتحليل كامل له. وبالرغم من أن نتائجنا هذه المرة غير مرضية فإننا عززنا الشفافية في مخاطبة السوق والمساهمين انسجاماً مع تراثنا القائم على المصارحة وتوفير الوضوح والشفافية بكل صدق وإخلاص.

> لكن ألا تتأثر الأسواق بالأخبار السيئة المتدفقة، التي تضرب الثقة؟

- أهم شيء الشفافية في أي عمل، عند وجود حقيقة حتى وان كانت صعبة يجب معرفة الواقع. الثقة تزيد مع الشفافية، فاخفاء الامور يزيد من الشكوك ويؤثر سلباً في الوضع. لقد قررنا وضع اعلان في الصحف لشرح وضعنا وما فعلناه من اجل الشفافية والصدق. الثقة هي رأسمالنا مستقبلاً وعدم الشفافية يزيل الثقة. الشفافية اساس كل شيء، في البنوك والتجارة وحتى الحياة الخاصة. انني تربيت على ضرورة ان يكون لدى الشخص 3 خصال، ان يكون لديه شيء يحتاجه الآخرون فمثلاً بيع سلعة او خدمة مطلوبة لدى آخرين فيكون ذا فاعلية، والامر الثاني ان يكون محترماً فيقدم هذه الخدمة أو المنتج بشكل مهني ومحترم، والامر الثالث ان يكون المرء موثوقا به وذلك يعني ان الناس يعودون لك مرة تلو الاخرى. > كيف يمكن التوصل إلى توازن بين الإبقاء على الثقة بالأسواق و الكشف عن حقيقة الأزمة الاقتصادية؟

- إني لا أرى حاجة للتوازن، فالثقة تنشأ وتستمر في إعلان الحقائق وبيان أبعاد الأزمة الاقتصادية كما هي فعلاً. ولا داعي للخوف من الشفافية، لأن الأسواق المالية المتعثرة اليوم، لا بد أن تخرج من هذا النفق المظلم، وأن تعود الأمور لمجراها الطبيعي، ولا بد لمن لديه فائض مالـي مستقبلياً أن يستثمره بهدف المحافظة على قيمته وإنتاج العائد عليه. وان كان المتعاملون سيتعلمون شيئا من هذه الأزمة الحادة فهو الحاجة الدائمة للحذر وإعلاء شأن عامل الثقة وحسن الاختيار في التعامل مع المؤسسات العريقة والثابتة بنزاهتها ومهنيتها وشفافيتها. > كيف يعيد «انفستكورب» النظر في استثماراته؟ وما هي التغيرات التي ستطرأ على تعاملاتكم واستثماراتكم؟

- إن اختصاص انفستكورب هو في الاستثمارات البديلة مثل تملك الشركات والعقار والاستثمار في شركات التكنولوجيا وإدارة الأصول. وقد اثبتت النتائج وعلى مدى سنوات طويلة بأن الاستثمارات البديلة تحقق أداء أفضل مما تحققه الاستثمارات التقليدية. واننا على يقين بأن المستثمر المدرك سيوزع استثماراته حسب المخاطر ويوظف جزءا من أمواله في الاستثمارات البديلة بالنظر لتفوق الأداء في هذا الحقل ويعتبر انفستكورب من أقدم وأشهر المؤسسات العالمية في هذا الاختصاص.

أما التطور فسوف يستمر في انفستكورب كما كان في الماضي المبدأ الموجه لكل أعمالنا. لأن التغيرات في الأسواق، وفي أدوات الاستثمار ومناهجه وفي متطلبات المستثمرين ستملي علينا استمرار التطور والتحديث والتغيير. > هناك الكثير من الحديث عن نوع من الجشع من قبل بعض المصرفيين وكبار العاملين في عالم المال. فهل تودون وضع حدود أو سقوف لدخل المصرفيين؟ وهل يعاني العالم اليوم بسبب الجشع؟

- نعم التركيز على زيادة الأرباح وربطها بالمكافآت كان حافزاً لدى البعض للسعي لإبراز النتائج الجيدة دون تقدير المخاطر، كذلك فان بعض المؤسسات ركزت على تحقيق الأرباح دون الانتباه الى قوة ومناعة الميزانية، فبالغت في الاقتراض بفوائد متدنية وقامت بتوظيفها في الأصول ذات المردود الأعلى دون التوقع بأن تلك الأصول قد تفقد جزءا من قيمتها وتصبح بالتالي غير كافية لتغطية قيمة القروض، الأمر الذي يسبب خسائر صافية. إن التسابق لتحقيق الأرباح دون إدراك المخاطر هو الذي خلق جو الجشع لدى أولئك المصرفيين. > إلى أي درجة أثرت تعاملات مثل صناديق التحوط والأموال الافتراضية في الأسواق الدولية؟ - إن فكرة صناديق التحوط تولدت من وجود فروقات بين الأسواق المالية، الأمر الذي شجع بعض الأذكياء في الحقل المالي على محاولة استغلال تلك الفوارق بهدف جني الأرباح. وقد حقق هؤلاء بالفعل عوائد مرتفعة نسبيا واجتذبوا العديد من المستثمرين لاستغلال مدخراتهم عن طريق هؤلاء بعد أن برزوا كأصحاب خبرة ومهارة في تلك المجالات المتخصصة. وبهذا وعلى رغم النقاش الذي ثار حول هذه الأدوات فإني لا أتوقع نهاية صناديق التحوط بقدر ما أتوقع أن يتم العمل على تطويرها وتعزيز المراقبة عليها، أي أنها كأداة استثمارية ستستمر. > متى تتوقعون خروج العالم من حالة الركود التي نعيشها؟ - إن الأزمة المالية تلتها أزمة اقتصادية أو ما يسمى بالانكماش أو الكساد الاقتصادي، وقد بدأنا نشعر الآن بأنها تتحول الى أزمة اجتماعية مع الارتفاع المتسارع في معدلات البطالة في كافة الدول الصناعية، وهذا الأمر بات يستقطب اهتمام الحكومات الغربية التي تسعى للحد من اتساع موجة التسريحات. البنوك مثل القلب يضخ الدم لباقي أعضاء الجسد ويجب ان تعمل البنوك على ضخ الأموال في الاقتصاد. اذا البنوك عادت الى حركتها السابقة سيبدأ العمل وسيولد ذلك أعمالا للناس، والبطالة ستتراجع. الثقة بحصول المرء على الواردات والشعور بالطمأنينة حول عمله.

أما متى يمكن الخروج من الأزمة الحالية فالتقديرات كثيرة ومتضاربة إذ هناك خبراء اقتصاديون يعربون عن تفاؤلهم باحتمال خروج العالم من هذه المصاعب في نهاية 2009.. لكن البعض الآخر، أكثـر تشاؤمـاً وهؤلاء يتوقعون أن يطول أمد البحث عن حلول قد يستمر ثلاث أو أربع سنوات. وفي مثل هذه الحال من الضبابية بشأن المستقبل فإن على مؤسسات مالية كانفستكورب الاحتياط والاستعداد للأسوأ وحفظ المؤسسة حتى يتم بنجاح الخروج من هذا النفق المظلم وتعود الحياة الاقتصادية والاستثمار الى طبيعتهما. إذا أردت مني تقديم توقعات معينة فمن الممكن أن يطول مكوثنا في هذا النفق بين 18 شهرا وسنتين. > ما هي الإصلاحات التي يجب في نظركم إدخالها على النظام المصرفي الدولي؟

- إني آمل بان تتطلب الهيئات الرقابية مزيداً من التركيز على متانة وسلامة الميزانية وكذلك بمعدلات كفاية رأس المال ومعدلات السيولة. كما أن لي رجاء مقابلا من الجهات التي تسعى لمزاولة المهنة المصرفية وهو أن يكون سعيها مستندا إلى وجود جهاز فني محترف وذي خبرات وتخصص. كل ذلك علاوة على قوة رأس المال والانضباط بقواعد صارمة تحمي المؤسسة وعملاءها في أوقات الشدة. وأخص بهذا النداء الدول الخليجية التي يتكاثر فيها اليوم إنشاء بنوك جديدة ومؤسسات استثمار ويتم ترخيصها دون التمحيص الكافي لمدى توافر الاختصاص والخبرة لدى القائمين عليها. اذا كان هناك درس واحد نأخذه من هذه التجربة فهو ضرورة النظر الى ميزانية المؤسسة وقوة رأس مالها وخبرة مدرائها وقدرتها على تحليل المخاطر، بدلاً من تقييم المؤسسة فقط بناء على ربحيتها.

> هل تؤيد التنظيم الحكومي للأسواق؟

- لا أؤيد التنظيم الحكومي للأسواق، فالتنظيم يجب أن يعود لأصحاب المهنة. أما الحكومة فعليها إيجاد الرقابة الصالحة ومزيد من الحكمة في ترخيص المؤسسات الجديدة التي تتطلب الطاقات البشرية المؤهلة، الحكومات ليس من واجبها التجارة او إدارة البنوك، لكن دورها مراقبة ميزانية البنوك. > هل الإصلاحات المطلوبة للنظام المصرفي العربي مختلفة عن تلك المطلوب الأخذ بها في السوقين الأوروبية والأميركية؟ - إن معظم المصارف في الأسواق الأوروبية والأميركية عريقة وقائمة منذ عقود، بل إن بعضها يعمل منذ قرون. وهذا الأمر ينطبق أيضا على سلطات الرقابة والإشراف في الغرب التي تحرص على الأداء وسلامة الميزانية. ويهمني التأكيد على ان السلطات الرقابية في الغرب تتمتع باستقلالية تامة عن الحكومات.

أما في البلاد العربية، فالحقل المصرفي ما زال حديثاً. ولهذا فإن علينا التأكد من أولوية وجود الموارد البشرية القادرة وذات الخبرة والاختصاص .

في جميع الحالات فإن القاعدة التي تنطبق على العالمين العربي والغربي التي ظهرت أهميتها بسبب الأزمة هي أن على إدارات المصارف عدم إعطاء الأولوية للربحية فقط، بل السعي لتأمين التوازن بين الربحية والمخاطر.

> حرص العديد من الدول العربية على اتباع سياسات مصرفية محافظة فهل هذا النهج هو الأفضل؟ - السياسة المحافظة مطلوبة، لأن المصارف تتعامل بأموال المودعين، وتتحمل بالتالي مسؤولية الائتمان والاستخدام المتبصر والحكيم لتلك الأموال. لكني أرغب في توسيع تعريف السياسة المحافظة ليشمل ليس فقط التحقق من صحة توزيع المخاطر ومتطلبات رأس المال وما شابه من المعايير الرقمية، بل أيضا التحقق من توافر الكفاءة البشرية والمهارات الإدارية والقيادية في المؤسسات المصرفية والمالية، كذلك مدى توافر سياسات نافذة للتكوين المهني وتدريب العاملين.