حينما تلتقي هوليوود بسينما بوليوود

فيلم «المليونير المتشرد»: ميلودراما تسبر عالم بومباي الأسفل

الممثلة فريدا بنتو في مشهد من فيلم «المليونير المتشرد» («الشرق الأوسط»)
TT

جاء فيلم «المليونير المتشرد» مفاجئا بالنسبة للأعمال التي أنتجت في العام الماضي، وحظيت باهتمام إعلامي منقطع النظير مثل «تشي» و«القارئ» و«فروست مقابل نيكسون». وبلغت المفاجأة قمتها، حينما فاز الفيلم بأهم جائزتين من جوائز «غولدن غلوب» التي جرى توزيعها يوم 11 يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث اختير كأحسن فيلم ونال مخرجه داني بويل جائزة أفضل إخراج لسنة 2008، أمام مخرجين بارزين مثل ستيفن دالدري، وديفيد فينتشر، ورون هوارد، وسام منديز. ومن المعروف أن جوائز غولدن غلوب الخاصة بهوليوود هي المنصة التي توصل الأفلام الفائزة إلى جوائز الأوسكار.

يدور الفيلم في مدينة مومباي الهندية، لكنه بدلا من تسليط الضوء على أجانب يعيشون في الهند مثل «البوابة إلى الهند» أو على شخصيات تنتمي إلى الطبقة المتوسطة مثل «عرس المونسون» وما تتضمنه من سيارات فخمة كالمرسيدس والأودي، نشاهد هنا شريحة من أبنائها ظلت بوليوود تتجاهلهم إلى حد ما: إنهم أولئك الصغار المتشردون الذين تعج بهم مدن الصفيح الممتدة وراء نهر الكنج. نجح داني بويل المخرج البريطاني والمقيم في لوس أنجليس حاليا في التخلي عن مبدأين ظلا أساسا للسينما الهندية المعروفة باسم «بوليوود»، وهما بهرجة الألوان الصاخبة التي تتميز بها الأفلام الهندية والمبالغة العاطفية في سرد القصة. والنتيجة التي حصلنا عليها هي رؤية مومباي بألوانها الحقيقية الرمادية والمغبرة، وبدلا من الانسياح العاطفي هناك اقتصاد شديد في إظهار اللحظات القاسية والحميمية.

بالإضافة إلى هذين العنصرين يستثمر المخرج بويل إلى أقصى حد برنامج «من يريد أن يكون مليونيرا؟» بموسيقاه وطريقة طرح الأسئلة والأدوار التي يلعبها مقدم الحلقات ليزيد من جو الإثارة والتوتر ما بين المشاهدين. وهنا نجد الضيف جمال مالك ( ديف باتيل) أمام المضيف بريم (أنيل كابور) وأمام جمهور يصل إلى التسعين مليون مشاهد في شتى أنحاء الهند وهم يتابعونه يجيب عن الأسئلة المعقدة واحدا بعد الآخر حتى بلوغه العشرة ملايين روبية. هناك سؤال واحد أمامه ويصل إلى العشرين مليون لكن الوقت المحدد للبرنامج انتهى، مما يتطلب تأجيل عرضه إلى اليوم اللاحق.

لا يعرض الفيلم أحداث المسابقة كما حدثت بل هي تتكرر على شاشة كشريط فيديو داخل مركز شرطة. فنجاحه الباهر غير المناسب مع خلفيته التعليمية الضئيلة أثار الشكوك بأنه استخدم طريقة ما للغش. وفي المركز يتعرض جمال خلال تلك الليلة إلى أنواع من التعذيب بما فيها استخدام الكهرباء لانتزاع اعتراف منه عن غشه قبل حلول اليوم التالي وعودته إلى برنامج «من يريد أن يكون مليونيرا». بدلا من ذلك يبدأ بتقديم شرح للكيفية التي تعلم فيها الإجابة عن تلك الأسئلة للمحقق (عرفان خان) الذي يصل الأخير إلى تعاطف معه.

ما بين مشاهد برنامج «من يريد أن يكون مليونيرا» والفلاش باك الذي ينقل القصة المرتبطة بهذا السؤال أو ذاك نستطيع التعرف إلى الطفولة التي مر بها اليتيم جمال برفقة أخيه الذي لا يكبره إلا بسنتين أو ثلاث، والذي يلعب دور الحامي والمنافس له معا. فبعد مقتل أمهما في حوادث شغب طائفية يصبح الشارع مكان إقامة الصبيين، ثم ترافقهما الطفلة لاتيكا في جزء من رحلة حياتهما، خصوصا حينما يؤخذ الثلاثة من عصابة تدعي الخير، وهناك في مخيم خاص بها يتم اقتلاع أعين أولئك الأطفال ذوي الأصوات الرخيمة لبيعها ثم لاستثمار الأطفال في حرفة الشحاذة، أما البنات فهن يجبرن على امتهان الدعارة حال وصولهن سن المراهقة.

وإذا كان إنقاذ جمال على يد أخيه في آخر لحظة قبل انتزاع عينيه وهروب الأخوين مع لاتيكا فإن الأخيرة تفشل في القفز إلى القطار المتحرك وتقع في براثن رجال العصابة.

تظل لاتيكا حاضرة في ذاكرة جمال، وخلال السنوات اللاحقة نتابعه مع أخيه وهما يستخدمان كل الأساليب الملتوية لخداع الزوار لقصر تاج محل، فجمال يتقمص شخصية الدليل لكنه في الوقت نفسه يتواطأ مع أخيه كي يسرق أحذيتهم بعد إقناعهم بضرورة خلعها أمام الضريح داخل القصر. ومن هنا جاءت كل معلومة التقطها ثمرة جهد شخصي للبقاء على قيد الحياة مما جعلها راسخة في ذاكرته حتى وصوله إلى برنامج «من يريد أن يكون مليونيرا».

وفي هذا التكسير البارع لمسار حياة جمال ابن العشرين والذي يعمل حاليا نادلا في مقهى تأتي القصة بطريقة شيقة مترافقة مع ما يخلقه البرنامج من إثارة عبر سؤال ما ثم ما يستثيره في ذاكرة جمال. لكن هذا الفعل ورد الفعل لا يجري مباشرة، بل هو يجري عبر مرآة أخرى، فنحن نتابعه في مركز الشرطة أي بعد انتهاء البرنامج، لكنه يكون مسجلا والجواب الذي يقدمه جمال للمحقق هو عبارة عن فلاش باك صوري يبين كيف أنه عرف جواب هذا السؤال أو ذاك.

وفي بحثه الدؤوب عن لاتيكا (فريدا بينتو) يعثر جمال عليها، ويساعده أخوه في الوصول إليها، فهي موجودة في بيت مشبوه وعلى وشك البدء في استغلالها جنسيا. لكن إنقاذ نفسيهما وإنقاذ لاتيكا بعد وقوعهما في براثن العصابة يتطلب حلا سحريا: أن يكون جمال ابن الرابعة عشرة حاملا لمسدس فيقوم بقتل رئيس العصابة، وهنا يدخل فعل لا يمكن تصديقه بسهولة.

وفي الوقت نفسه يستأثر سليم (ماذور ميتال) بلاتيكا ويطرد أخاه جمال من مسكنه. وهنا يصبح سليم مساعدا لرئيس عصابة أخرى تتعامل أيضا في إدارة نشاطات مشبوهة أيضا. هنا في هذه الأجزاء، يقع الفيلم في مطبات بوليوود الميلودرامية والمصادفات الغريبة. فجمال يظل متعلقا بلاتيكا، حتى حينما تصبح في حوزة صاحب عمل سليم رئيس العصابة المقيت. وللمرة الثالثة يتمكن من استرجاع لاتيكا لتنتزع منه مرة أخرى.

وبعد أن يقتنع المحقق ببراءة جمال وحلول النهار يُنقل الأخير إلى الاستوديو ليجيب عن سؤال واحد، ستقرر إجابته عنه فيما إذا كان سيصبح مليونيرا أو يعود إلى حاله. وهنا يتواجه مع سؤال لغز. فيطلب استخدام الهاتف ليهاتف أخاه. لكنه يفاجأ بصوت لاتيكا التي تمكنت من الهرب بفضل سليم من بيت رئيس العصابة بصحبة الهاتف الجوال.

مع ذلك فهي الأخرى لا تعرف الإجابة، ويصبح عليه أن يقرر إما الاستمرار أو الانسحاب فيقرر الخيار الأول. في تلك اللحظة كان مدفوعا بواعز واحد: القدر. فالكلمة التي يرددها آنذاك هو «المكتوب». ومن هنا يأتي اختياره للإجابة. كذلك تكشف تلك اللحظات عدم اهتمامه بالجائزة بقدر حرصه على استرجاع حبيبة عمره.

النهاية سعيدة مثل الكثير من نهايات هوليوود وبوليوود حينما يلتقي جمال بلاتيكا في محطة قطار. وتأتي الرقصة الهندية أخيرا، كسرا آخر لمبدأ الرقصات التي تتخلل الكثير من أفلام بوليوود، إذ تكون ما بين النهاية وظهور أسماء المشاركين في الفيلم، لتشارك في خلق مزاج مبهج في نفس المتفرج بعد عيشه لحظات أسى ومرح ورعب.

يعود الإعجاب الذي حظي الفيلم به إلى الجدة في استكشاف عالم محكوم بالقسوة والفساد أمام قوة الإرادة في البقاء، في عالم يقع خارج محيط الغرب، على الرغم من استخدامه لأسلوب يتكرر فيه الاعتماد على الفلاش باك بطريقة رتيبة، مرفوقا بأسئلة برنامج «من يريد أن يكون مليونيرا» وموسيقاه المثيرة، وما تضمنه من مشاهد ميلودرامية عسيرة على التصديق وذات طابع مضطرب. يضع فيلم «المليونير المتشرد» إصبعه على عالم في طور التغيير السريع مع بروز الهند قوة اقتصادية تستحوذ على سوق خدمات الاتصالات عالميا. وانقراض عالم آخر تختفي فيه مدن الصفيح من دون معرفة ما حل بمصائر ملايين المعذبين من ساكنيها. فيلم شائق ويستحق المشاهدة.