الحمامات العربية تجذب الفرنسيات

تتردد عليها ممثلات شهيرات أمثال كاترين دينوف و ابنتها كيارا ماستروياني

الحمام العربي سحر الشرق في قلب باريس («الشرق الأوسط»)
TT

منذ جاءت إلى باريس قبل بضعة أعوام، لم تتح لها فرصة ارتياد حمام شعبي على الطريقة العربية. لكن سميرة، الشابة السورية التي تعمل محاسبة في شركة لصناعة الثياب الجاهزة، تلقت هدية بمناسبة يوم المرأة العالمي هي عبارة عن دعوة لارتياد حمام جديد فتح أبوابه في الدائرة السادسة من العاصمة الفرنسية.

تروي سميرة تجربتها في الحمام الباريسي على النحو التالي: «كنت صغيرة عندما أخذتني عمتي إلى الحمام العمومي لأول مرة. ولا أدري لماذا كانت تسميه حمام السوق... هل لأنه يقع وسط حي شعبي تجاري يتجمع فيه باعة الخضار وأواني البلاستيك؟ كل ما أذكره من تلك التجربة هو أنني فزعت من منظر النساء السمينات المتحررات من ثيابهن ورفضت أن أخلع فستاني وبكيت بصوت عال لكي أعود إلى البيت».

المرة الثانية كانت في المغرب. وقد ترددت سميرة في تلبية دعوة صديقة إلى حمام يقع في أطراف الدار البيضاء، معتبرة أن الاستحمام قضية شخصية وحميمة ولا يجوز أن تتم خارج هذا الإطار. لكن صديقتها ألحت وهي تمطرها بالوعود المغرية، وحسنا فعلت، لأن سميرة اكتشفت عالماً من الأبخرة والشذى العطري الذي يساعد على الاسترخاء وراحة الأعصاب من عنف العالم الخارجي. من هو المفتري الذي أعطى للضجيج صفة «حمام النسوان»؟ تقول: حين جئت إلى باريس فوجئت بوجود العديد من الحمامات العمومية في الأحياء الشعبية والسكنية. وأدهشني أنهم يسمونها «دوش البلدية». وعرفت أن كثيراً من الشقق في المباني القديمة تخلو من موضع للاستحمام أو من بيت للراحة. لذلك تبني البلديات حمامات للرجال والنساء يدخلونها بأسعار زهيدة. كما عرفت أن هناك حماماً على الطراز الشرقي في مسجد باريس الكبير الواقع في الدائرة الخامسة. ولم تكن الموضة قد انتشرت مثلما هي عليه اليوم.

ماذا حدث؟ وكيف انصرفت طائفة من الباريسيات عن عطورهن الشهيرة وعن العصارات التي تنتجها معامل فرنسا لكي يتبنين الصابون البلدي المستورد من سورية ورغوة الطحالب من تونس وأملاح البحر الميت التي تصقل الذراعين والساقين؟

إنها موجة العودة إلى الطبيعة، في الأكل والثياب وسائر مواد التجميل. وهي أيضاً تلك الأخبار التي نقرأها في الصحف، كل يوم، عن المواد والخامات الصناعية المسببة للحساسية وحتى للسرطان. كما أن ضغوط الحياة اليومية دفعت بالأُوروبيين إلى البحث عن «خلوات عازلة» يخلد فيها المرء إلى شعور خفيف بالخدر والنظافة وإلى لذائذ الاعتناء بالجسم والتفرغ لتدليكه وتدليله.

لذلك، حين دعيت سميرة لتمضية ساعتين من الزمان في الحمام الذي فتح أبوابه في الحي المحيط بمونبارناس، أي في قلب منطقة المكتبات ودور النشر والمقاهي الأدبية، قررت أن تستعيد تجربتها السعيدة في الدار البيضاء وسارعت لتلبية الدعوة وتجربة الحمام الذي تبدو صوره في البطاقات الدعائية وكأنه قطعة من مرابع بلاد الأندلس. وهي تعترف أن الذي أغراها هو الاسم «حمام الباشا». هل هو الولع المستجد بالمسلسلات المدبلجة التي تستعرض جمال اسطنبول وسحر نسائها ورجالها أم هي أُصولها التركية التي دغدغتها التسمية؟

رأى هذا الحمام النور قبل بضعة أشهر. وهناك، في ضاحية باريس الشمالية المزدحمة بالمهاجرين، حمام بالاسم نفسه يستقبل زبائنه منذ عشرين سنة. وبفضل نجاح ذلك «الباشا» طالب الزبائن الذين كانوا يقصدونه من الأحياء البعيدة، بافتتاح «باشا» ثان في باريس. وتمكن الحمام الجديد من تكوين حلقته الخاصة من الزبونات، باعتباره مخصصاً للنساء فحسب، بفضل الدعاية الشفوية التي تتناقل سريعاً بين الصديقات وزميلات العمل. وبسبب مستوى الخدمة التي يقدمها والذوق الرفيع في تصميم المكان، اجتذب الحمام الجديد طبيبات ومحاميات ومديرات شركات كبرى، كما صارت تتردد عليه ممثلات شهيرات مثل النجمة كاترين دينيف وابنتها الممثلة كيارا ماستروياني.

تأتي جميع المواد العطرية والدهون الزيتية والصابون من المغرب، أما العاملات فهن من بلدان المغرب العربي في الغالب، وبينهن برتغاليات وبرازيليات. أما الزبونات فإنهن يتصرفن بحريتهن طالما أن رجلا لا يضع قدمه في المكان المخصص لهن. وتتنقل المستحمات بين المغاطس الزرقاء والخضراء وردهات التدليك التي يغلب عليها اللون العاجي وبين غرف البخار «السونا» وأحواض «الجاكوزي». ويبدو المكان، ببلاطه المزجج وجدرانه ذات اللوحات والرموز الطاردة للأرواح الشريرة، أشبه بقصر من قصور أُمراء الأندلس أو معرضاً للفنون المعمارية الشرقية من خزف منقوش وسقوف مقوسة ذات قرنصات مشغولة بيد أسطوات مهرة.

 يمكن للزبونة الاختيار من بين عدة صيغ لقضاء وقت ممتع. وتتراوح الصيغ ما بين الاستحمام والتلييف على يد عاملة مدربة بكيس من الألياف الطبيعية وبالصابون الأسود، أو طلبات إضافية مثل التدليك بالزيوت العطرية مثل دهن لوز البربر (أرغان) ووضع قناع منظف للبشرة وتغليف الجسم بخلاصة طحالب البحر والغسل بصابون زهر الليمون والصابون الأسود. والتدليك فن في حد ذاته، تتولاه خبيرات في أماكن العقد العصبية و«فصفصة» العضلات المتشنجة أو المتيبسة. وهناك تحت تصرف الزبونة اختصاصيات في التجميل ونزع الشعر بعجينة السكر والعسل والليمون وتقليم الأظافر لليدين والقدمين وتنعيمهما.

 يستقبل الزبونة، عند الدخول، فنجان من الشاي الأخضر بالنعناع. أما عند انتهاء الزيارة، فيمكنها استكمال المتعة بالاستفادة من خدمة المطعم المغربي الملحق بالحمام وتناول وجبة خفيفة من الحلويات الشرقية والشاي، أو وجبة ساخنة من طاجن الدجاج أو لحم الغنم.