طبول الحرب سمع قرعها الجميع إلا صدام.. وبرزان نصحه بالاستجابة لمبادرة الشيخ زايد

الجلبي لـ«الشرق الأوسط» : قلنا للأميركيين إن الشعب العراقي يفهم التحرير لكنه يرفض الاحتلال

جندي عراقي يقف قرب جدارية تضم صورة لرئيس النظام العراقي السابق وأحد أقواله في الأكاديمية البحرية بالبصرة أمس (أ.ف.ب)
TT

كان محمد سعيد الصحاف، وزير الإعلام في نظام صدام حسين، يقف محاطا بالصحافيين وهو يلف كوفية حمراء حول عنقه، متحدثا بحماسته المعهودة عن صمود بغداد واستحالة دخول القوات الأميركية إليها، كان في حديثه يرد على الأنباء التي تحدثت عن سقوط مطار صدام (مطار بغداد الدولي) في أيدي القوات الأميركية ووصول دبابات القوات المتحالفة إلى مشارف العاصمة العراقية.

في عمق المشهد، تظهر كاميرا أحد مراسلي الفضائيات الغربية، وبينما كان الصحاف ما يزال يهدد بالويل والثبور (العلوج)، مرت عدة دبابات عابرة جسر الجمهورية باتجاه «باب الشرقي»، مركز بغداد، ومن ثم إلى ساحة الفردوس لإسقاط تمثال صدام حسين.

توقف الصحاف عن صراخه المعهود وتهديداته الثورية، التفت إلى الخلف، شاهد الدبابات الأميركية بأم عينيه، انسحب من المشهد، لف وجهه بالكوفية الحمراء كي لا يتعرف عليه أحد، وطلب من صديقه الذي أقله بسيارته البيك آب البيضاء بأن يعيده إلى بيته، قائلا له «يلله بابا يلله، خلي نروح البيتنه ما بقى شي نحكيه».

هذا المشهد الحي يؤكد أن القيادة العراقية بكل أركانها لم تكن تعرف ما يجري في البلد، ولا خارج البلد، فالرئيس (القائد) اختفى منذ مدة وظهر بصورة مفاجأة في الأعظمية وهو يخطب في الجماهير من فوق سيارة عادية، لا أحد يعرف إلى أين ذهب بقية أركان النظام ووزرائه وقادة حزب البعث وأفراد عائلة الرئيس.

كانت بغداد قد سقطت في التاسع من أبريل (نيسان) 2003، لكن قبل هذا التاريخ بأقل من شهر كانت طبول الحرب تقرع بقوة، والقوات المتحالفة تتحشد في الكويت وقطر والبحرين، وحاملات الطائرات الأميركية تستقر في مياه الخليج والبحر الأحمر استعدادا لغزو العراق.

لكن هل هذه هي المرة الأولى التي فكرت فيها الإدارة الأميركية غزو العراق؟ الحقائق تؤكد غير ذلك، فاستنادا إلى كتيب أطلعنا عليه أحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، يؤكد أن الولايات المتحدة فكرت في هذا الغزو منذ عام 1934، يقول الجلبي «اشتريت كتيبا من المتحف البريطاني صادر عام 1934 يتضمن تعليمات إلى الجيش الأميركي وكيف يتصرف عندما يدخل إلى العراق، لو طبقوا عام 2003 التعليمات التي أصدروها عام 1934، أي قبل أكثر من ستين عاما لكانوا قد نجحوا في سياستهم. الشعور بالغرور والعنجهية التي أصابت الأميركيين سبب لهم مشاكل كبيرة ولنا مضار هائلة». كانت طبول الحرب تدق في كل مكان وبأصوات عالية لكن الوحيدين الذين لم يسمعوا، أو لم يقبلوا بسماعها هي القيادة العراقية، وبالتحديد الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي لم يستفد من حرب عاصفة الصحراء عام 1991 التي حررت الكويت، حيث اعتقد في تلك الحرب بأن القوات المشتركة بقيادة الولايات المتحدة لن تحارب العراق ولن تدخل أراضيه، واعتبر عدم تغيير نظامه من قبل الرئيس بوش الأب وقتذاك تشجيعا لبقائه في السلطة، واعتقد مجددا عام 2003 أن أميركا غير جادة بشن الحرب ولا بتغيير نظامه، وأي مسؤول في مكانه كان سيقبل بمبادرة الشيخ زايد، الرئيس الراحل لدولة الإمارات العربية والتي مفادها أن «تتخلى القيادة العراقية عن السلطة وتغادر العراق على أن تتمتع بكل المزايا المناسبة وذلك في غضون أسبوعين، وأن تقدم ضمانات قانونية ملزمة محليا ودوليا للقيادة العراقية بعدم التعرض لها أو ملاحقتها بأية صورة من الصور».

كانت المعارضة العراقية قد تأكدت أن الإدارة الأميركية هذه المرة جادة بشن الحرب وتغيير نظام صدام حسين، وحسب سياسي عراقي بارز، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن مجموعة من قادة المعارضة اجتمعت بالقيادة العسكرية الأميركية في البنتاغون قبل شن الحرب بثلاثة أشهر وأطلعوهم على خطط أولية تؤكد أن الحرب قادمة وأن النظام سيتغير»، ويضيف السياسي العراقي الذي رفض نشر اسمه، فإن «جزءا من هذه المعلومات تم تسريبها إلى النظام العراقي وقتذاك بطريقة أو بأخرى، إلا أن القيادة العراقية لم تصدق هذه التسريبات».

وما يؤكد هذه المعلومات، هو ما كشفه مصدر كان ناشطا في المؤتمر الوطني العراقي لـ«الشرق الأوسط»، حيث قال «لقد وجدنا في مكتب صدام حسين بعد دخولنا إلى بغداد وثيقتين هامتين، الأولى من عميل للمخابرات العراقية كان يقيم في عمان، والوثيقة عبارة عن رسالة يشرح فيها هذا العميل تفاصيل الهجوم الذي سيتم على العراق من قبل القوات الأميركية، والوثيقة تحمل هامشا لسكرتيره عبد حمود بخط صدام حسين يقول (اطلعت وتحفظ)، والوثيقة الثانية رسالة من برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، هو الآخر يؤكد فيها أن القوات الأميركية ستهجم على العراق وستعمل على تغيير النظام، وينصحه فيها إما بالجلوس مع الأميركان والاستماع إلى شروطهم وتنفيذها، أو القبول بشدة بمبادرة الشيخ زايد، وهذه الوثيقة هي الأخرى تحمل هامشاً بقلم صدام يقول فيه (اطلعت وتحفظ)».

كانت خطة الإدارة الأميركية والمتفق عليها مع قوى المعارضة هي أن يتم تدريب عناصر عراقية في مختلف المجالات، الصحية والعلمية والبلدية والشرطة والإعلام والمالية وغيرها، على أن يكون المتدربون من الكفاءات العراقية من ذوي الاختصاصات والمقيمين في الخارج، كي يتسلم هؤلاء هياكل الوزارات العراقية بعد تغيير النظام، أي أن الدولة تبقى مثلما هي بوزاراتها ومؤسساتها وموظفيها ويتم إقالة الوزراء فقط، وأن يدير هؤلاء المتدربون هذه الوزارات ريثما تستقر الأمور، وبالفعل تم تدريب عناصر كثيرة في واشنطن، واشترك عراقيون متخصصون في عمليات التدريب، بينما تم تدريب مقاتلين في براغ، وتم تكليف اللواء الركن محمود الشهواني لإعادة بناء القوات المسلحة، وأشرفت وزارة الخارجية الأميركية على هذه البرامج، لكن ما حدث فيما بعد هو أن وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد انفرد في مسألة غزو العراق ورسم طريقة إدارته، حيث أبعد وزير الخارجية كولن باول وأفشل مشاريعه في إدارة الدولة.

وفي 20 مارس (آذار) 2003 وفي الساعة 02:30 بتوقيت جرينتش، أي بعد انقضاء 90 دقيقة على المهلة التي أعطاها جورج بوش لصدام حسين ونجليه بمغادرة العراق، وبينما كان العراقيون يترقبون ما سيحدث، اهتز حي المنصور الراقي بجانب الكرخ ببغداد، ثم سمع دوي انفجارات في بغداد، وبعد 45 دقيقة صرح الرئيس الأميركي أنه أصدر أوامره لتوجيه «ضربة الفرصة» الذي علم فيما بعد أنها كانت ضربة استهدفت منزلا كان يعتقد أن صدام حسين متواجد فيه، كانت المعلومات التي تلقتها قيادة العمليات الأميركية خاطئة، كما ستتلقى مستقبلا المزيد من المعلومات الخاطئة والتي ستتصرف وفقها.

يقول إياد علاوي لـ«الشرق الأوسط» حسب «اعترافات كولن باول، وزير الدفاع الأميركي الأسبق، يقول إنه يبدو أن الإدارة الأميركية كانت تعطينا معلومات خاطئة عن عدد الجنود والشرطة العراقيين الذين تم تدريبهم، أرقاما كاذبة، وهذا التصريح نشر قبل أيام قليلة في الصحافة البريطانية، وهذا كان رأيي، أنا أحترم هذا الرجل احتراما كبيرا، لأنه صريح ولي لقاءات كثيرة معه، وقد تناقشنا مرة حول هذا الموضوع، حول أعداد العراقيين المدربين في الجيش والشرطة، وقد أخبرت الرئيس بوش نفسه وقلت له إن الأرقام التي تعطى لكم حول عدد أفراد الجيش والشرطة غير صحيحة وغير دقيقة».

لقد اعتمدت قيادات الجيش الأميركي على عنصر المفاجأة، فكان التوقع السائد هو أن تسبق الحملة البرية حملة جوية كما حدث في حرب الخليج الثانية، فكان عنصر المفاجأة هنا هو البدء بالحملتين في آن واحد وبصورة سريعة جدا أطلقت عليها تسمية «الصدمة والترويع» Shock and Awe وكان الاعتقاد السائد، أيضا، لدى الجيش الأميركي أنه باستهداف القيادة العراقية والقضاء عليها فإن الشعب العراقي سوف ينظم للحملة وسوف يتم تحقيق الهدف بأقل الخسائر الممكنة.

ويوضح الجلبي قائلا «بعد دخول القوات الأميركية أصابهم مرض الغرور والعنجهية، واعتقدوا أنه من السهل إدارة الشعب العراقي كونهم استطاعوا إيصال ألفي مدرعة خلال ثلاثة أسابيع من الحدود الكويتية إلى بغداد، قلنا لهم قبل أن يدخلوا إلى البلد إن الشعب العراقي يفهم التحرير ويرفض الاحتلال».