المصريون يحتفلون بشم النسيم بالفسيخ والملوحة.. وحرق دمية اللمبي

عادات سنوية يعود بعضها للتراث الفرعوني

تشهد محال الأسماك رواجا موسميا بمناسبة شم النسيم («الشرق الأوسط»)
TT

«فسيخ، وسردين، ورنجة، وملوحة، وبيض ملوّن، وخس وملانة، وبصل أخضر».. أطباق شهية تتراص على مائدة المصريين، احتفالا بعيد «شم النسيم» أقدم أعيادهم ومناسباتهم الشعبية، ففي تراث أجدادهم الفراعنة، كان يسمى«شمو»، وكان يتوافق مع بدء موسم الحصاد، ومقدم الربيع كل عام. تبدأ بهجة شم النسيم، منذ الصباح الباكر، حيث يهرع غالبية المصريين محملين بهذه المأكولات إلى الحدائق والمتنزهات العامة، وشواطئ النيل، والترع والبحار وحتى الصحراء للاستمتاع بطقوس هذا اليوم. واستعدت معظم المحافظات وبخاصة الساحلية، وبعض الوزارات لهذه الطقوس، بتشكيل غرف طوارئ، فلا يخلو شم النسيم من وقوع حالات تسمم، أو تعرض البعض للغرق في النيل. وقبل نحو أسبوع ومئات الأطنان من الفسيخ والسردين المملح والملوحة، تتوافد على العاصمة المصرية، حيث تشهد محال هذه الأسماك الشهيرة رواجا موسميا، بينما تتفاوت الأسعار من محل إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، فكيلو الفسيخ يبلغ في المتوسط من 50 إلى 40 جنيها، والملوحة من 30 إلى 35 جنيها، والسردين من 20 إلى 225 جنيها في محال العاصمة القاهرة. ولا يعبأ المصريون بتحذيرات الأطباء التي تتكرر في مثل هذا اليوم من خطورة الإفراط في هذه الأكلات على الصحة العامة، وخاصة مرضى الكلي والكبد وضغط الدم، فـ«الأعمار بيد الله، وأكلة تفوت ولا حد يموت» حسبما تقول أم شوقي (61 عاما) ربة منزل، بعد أن انتهت من شراء لوازم الاحتفال من عند الفسخاني.. وتضيف «ما يبقاش شم النسيم من غير الفسيخ والملوحة.. أما السردين فأنا تعودت على تخليله في البيت.. اللمة حلوة في هذا اليوم والحاجات دي بتفتح النفس قوي».

وعلى سبيل المشاركة في مظاهر الاحتفال بشم النسيم خصصت هيئة السكة الحديد قطارين بتذاكر مخفضة بنسبة 50%، وصرح المهندس محمود سامي رئيس الهيئة القومية للسكك الحديدية بأن قطار المناسبات سيغادر القاهرة إلى الإسكندرية في تمام الساعة 6 صباحا وسيعود من الإسكندرية في نفس اليوم في تمام الساعة 6.25 مساء. كما سيتم يوم شم النسيم تشغيل قطار مناسبات آخر من المنيا إلى الفيوم، حيث سيغادر القطار محطة المنيا في تمام الساعة 5.50 صباحا وسيعود من الفيوم في نفس اليوم في تمام الساعة 7 مساء».

وفي بورسعيد يحتفل الأهالي بطقس حرق دمية «اللمبي»، وهو طقس خاص، يبدأونه في منتصف ليلة شم النسيم، وسط مظاهر وكرنفالات شعبية يمتزج فيها الغناء بالرقص والموسيقى. والطريف أن صنع الدمية من القماش المحشو، وطرق إعدادها وتزيينها بشكل أفضل، يشكل مجالا للمنافسة بين كل شارع وكل حارة، وكل حي، حيث يتم تعليق الدمى في الشارع الذي يخصها وحراستها من قبل شباب الحي لكي لا يعبث بها أحد ويوم «الأحد» السابق لشم النسيم تخرج الدمى كلها، وبعد الزفة يتم حرق كل الدمى في «الوليعة» والحي الفائز هو صاحب أجمل دمية وأكثر نار مشتعلة وأطول فترة اشتعال أيضا، وكل هذا وسط مظاهر البهجة والفرج والتنافس والغناء: «يا طربة (مقبرة) يا أم بابين وديتي اللمبي فين».

دكتور عبد الحميد حواس الأستاذ بالمعهد العالي للفنون الشعبية، أحد من رصد مظاهر شم النسيم، يرجع هذه التسمية للدمية إلى شخص حاكم أو ضابط انجليزي ظالم ومتجبر كان يحمل هذا الاسم. مشيرا إلى أنه ربما يكون هو اللورد اللمبي الذي كان أيام سعد باشا، وأن أحد البشوات كان قد رتب له استقبالا ووافق هذا الاستقبال ليلة شم النسيم وأفشلت الجماهير ذلك الاستقبال بمظاهرة مضادة أحرقوا فيها دمية تمثل اللورد اللمبي. ويقول حواس: على الرغم من أنه لا توجد وثائق تكشف عن العلاقة المباشرة بين اللمبي الذي كان يمثل المستعمر إبان احتدام الثورة الوطنية، وبين تلك الدمية الشعبية، فإنه قد استقطب سخط الجماهير مما حدا بهم لأن يطلقوا اسمه على دميتهم ثم يحرقونها. ويلفت حواس إلى الدلالة في هذا الطقس، مشيرا إلى أن استمرار حرق اللمبي يرجع إلى حرق رمز الطاغية أو التعليق بشكل كاريكاتيري ساخر على مجريات الأمور السياسية والاجتماعية في الواقع.

ويوافقه الرأي أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر دكتور أحمد العقباوي، الذي يشير إلى أن هذا الطقس يساعد الناس على الراحة بالفعل، فهم يعتقدون بحرق الدمى أنهم يتخلصون هكذا من الأمراض والخمول والكسل، بل حتى الإحساس بالقهر والضغط السياسي والاجتماعي، وهم يؤمنون بهذا، وهو ما يتحقق فعليا في هذا الطقس، فالثقافة الجمعية تجعل حالتهم النفسية تتحسن، ويشعرون بأنهم في حالة أفضل.

ومن العادات التي تحرص عليها غالبية النساء في يوم شم النسيم، تكحيل العين يوم السبت بكحل بلدي ويسمى «سبت النور» وهو الذي يسبق شم النسيم مباشرا فالكحل البلدي الحار أو العادي في ذلك اليوم يقي العين من الأمراض بقية العام بحسب أعراف الموروث الشعبي، وقد يغمس المرود في بصلة أو ليمونة، ويوضع مرة أخرى في الكحل وتكحل به العين. أيضا تعتبر الحنة من مظاهر الاحتفال بشم النسيم ويفرح بها الأطفال والنساء خاصة الريف.

وتواصلا مع ما يتناثر في أدبيات التراث الفرعوني، لا تزال بعض الأسر وبخاصة في الجنوب تحرص على تعليق الثوم الأخضر والبصل الأخضر على الحوائط اعتقادا بأنه يقي من الثعابين والأرواح الشريرة، كما أن شم البصل ليلة شم النسيم بل وضعه تحت الوسادة في تلك الليلة يجلب العافية للشخص بقية العام. وتتنوع هذه المظاهر العامة حسبما يخص كل منطقة. ويشير دكتور العقباوي إلى أن هذه الطقوس وغيرها تدل على أن شم النسيم ليس عيدا عاديا في حياة المصريين فهو من دون بقية أعيادهم الأخرى يتسم بلمحة فنية، نلمسها في عملية تلوين البيض، أو صنع الدمية، أو تنبيت «الحِلبة»، وزراعة الزهور والورود والنباتات، لذلك يشكل فرصة جيدة للمصريين لعيش حالة من البهجة والفرحة، مما يكون له أثر إيجابي عليهم بعد ذلك لاستكمال شؤونهم الحياتية بنشاط.

وبرغم البذخ والبراح الذي تشهده احتفالات شم النسيم في منتجعات الصفوة بالساحل الشمالي وغيرها، على عكس الشواطئ الشعبية التي تكتظ بالمواطنين البسطاء، فإن شم النسيم يشكل فرصة تنشيط حقيقية للسياحة الداخلية، بخاصة مع إعلان معظم الفنادق عن تخفيضات تصل إلى نصف الأسعار لقضاء يوم شم النسيم بين ربوعها، وذلك في مرسى مطروح والإسكندرية ورأس سدر والعين السخنة، والغردقة وشرم الشيخ على البحر الأحمر، وكذلك في الأقصر وأسوان بالجنوب.