باريس تتفرج على مدموازيل «كوكو.. قبل شانيل»

ليس فيلما عن الفساتين الجميلة بل عن الحياة الحقيقية لامرأة فرنسية ذات شخصية قوية ودأب لا يعرف الكلل

لقطة من فيلم «كوكو قبل شانيل»
TT

إنه فيلم أخرجته امرأة وأدت الدور الرئيسي فيه امرأة ثانية ويتناول حياة امرأة ثالثة. و«كوكو قبل شانيل» الذي نزل إلى الصالات هذا الأسبوع ليس فيلما عن إبداع غابرييل شانيل في عالم تصميم الأزياء، بل عن شباب تلك الآنسة الفرنسية التي ظلت تحمل لقب «مدموازيل» حتى بعد بلوغها التسعين وكانت وجها بارزا من وجوه الحياة الباريسية، أوائل القرن الماضي.

بحثت المخرجة الفرنسية آن فونتين عن من تقوم بدور أسطورة الموضة كوكو شانيل ووقع اختيارها على أودري توتو. إن هذه الممثلة الشابة هي في قلب الأضواء حاليا، خاصة بعد دورها في «المصير المدهش لإميلي بولان»، الفيلم الذي أعاد السينما الفرنسية إلى خريطة المشاهدة في العالم بعد طول انحسار وتم ترشيح بطلته للأوسكار.

خلال الأسبوع الماضي تصدرت صور توتو أغلفة المجلات الفرنسية وترقب الجمهور عرض هذا الفيلم كحدث سينمائي يستعيد حكاية مصممة الأزياء التي حررت النساء من القيود بإلغائها المشدات التي كن يرتدينها تحت ثيابهن وتكتم على أنفاسهن في سبيل الحصول على خصر رقيق. لقد كانت امرأة حرة، لهذا تركت أجساد النساء على سجيتها لكي ترسم المشهد المديني العام بحضورها الآسر.

أودري توتو، التي أصبحت السفيرة الجديدة لدار «شانيل» وحاملة لواء عطرها الشهير «رقم 5» تقول إنها تتشابه مع الشخصية التي أدت دورها، في نواح كثيرة. ومن يراها مرتدية بلوزة كحلية وتنورة بيضاء في مقر الدار يتصور أن المدموازيل قد عادت إلى الحياة. لقد جاءت الاثنتان من منطقة «أوفيرن»، لا يفصل المكان الذي ولدت فيه شانيل عن البلدة التي ولدت فيها توتو سوى مسيرة نصف ساعة بالسيارة. حين طرحت فكرة عمل فيلم عن شانيل، عبرت الممثلة، بكل صراحة، عن رفضها الاشتراك في فيلم من النوع المبسط المليء بالمشاهد المفتعلة والموسيقى الرومانسية عن حياة النخبة في فترة مبكرة من القرن الماضي، أو عن تلك الفترة الصاخبة التي تسمى في فرنسا بـ«السنوات المجنونة». الرومانسية. لكن المخرجة آن فونتين لم تكن تسعى لذلك، بل أرادت تقديم الحياة الحقيقية لامرأة فرنسية كانت تتمتع بشخصية قوية ودأب لا يعرف الكلل وإرادة من حديد. فقد ولدت غابرييل شانيل، عام 1883، لأب يعمل بائعا متجولا وأم خياطة كانت تقوم بعملها في الأسواق الشعبية المكشوفة وعلى الأرصفة، وهي التي أورثت ابنتها حب القماش منذ نعومة أظفارها. ولما ماتت والدتها، كانت البنت في الثانية عشرة، هجر أبوها البيت وأطفاله الخمسة وسافر إلى أميركا على أمل أن يجمع ثروة هناك. وهكذا وجدت شانيل نفسها في الميتم مع شقيقتيها، بينما تم إرسال شقيقيها للعمل في إحدى المزارع مقابل طعامهما.

خرجت في سن الثامنة عشرة لتعمل متدربة لدى الراهبات اللاتي علمنها أصول الخياطة، المهنة التي عرفت كيف تجعل منها جواز مرورها إلى المجتمع الراقي الذي كانت تتطلع إليه من بعيد. كيف بلغت الخياطة المبتدئة ما بلغته، هي التي عاشت بين الأيتام وعانت من صراع الطبقات وتورطت بعلاقة مع ضابط أرستقراطي تنازل عن رتبته العسكرية لكي يتفرغ لتربية خيول السباق؟ من خلاله تعرفت شانيل على حياة القصور واستغربت ما تراه من حسد الأثرياء لمن يفوقونهم ثروة. وعلى الرغم من أنها لم تكن تملك ملجأ تذهب إليه، فقد تركت عشيقها غريب الأطوار بعد أن اكتشفت أنها لا تحبه وإنما تريد الانطلاق لآفاق أرحب.

عملت شانيل في الاستعراضات الموسيقية وتلقت دروسا في الغناء والرقص لأنها لم تكن تريد أن تبقى خياطة للشراشف أو تطرز الأزهار على حواشي أغطية الوسائد. وفي سن الرابعة والعشرين قدمت استعراضا أمام عدد من الضباط الذين أطلقوا عليها تسمية «كوكو»، لأنها كانت تؤدي أغنية تقول : «من سيذهب ليرى كوكو في تروكاديرو؟»، وهو اللقب الذي سيلازمها ويصبح علامة شهيرة. لكنها لم تخلق لتكون مغنية، بل راحت تفتش عن مكانها الحقيقي من خلال تصميم وخياطة القبعات النسائية لحساب المتاجر الكبيرة. ولقيت موهبتها النجاح، بحيث توسعت أعمالها، بحيث استعانت بخالتها وبإحدى شقيقاتها لمساعدتها في افتتاح محل خاص بها.

تقول المخرجة: «حالما رأيت أودري توتو أمامي شعرت أنها شانيل التي أبحث عنها. وهي لو رفضت الدور لما أنجزت هذا الفيلم». والحقيقة أن ملامح توتو تقترب إلى حد كبير من ملامح الشخصية الأصلية ومن ألوانها، فهي نحيلة وذات شعر أسود قصير وعينين ذكيتين تنطقان من دون كلام. وقد عكفت الممثلة على دراسة حياة شانيل وسرها أن المدموازيل كانت تعطي عدة روايات مختلفة عن حياتها بشكل يصعب معه اكتشاف الحقيقة. لكنها كانت وسيلتها في حماية الجانب الحميم من شخصيتها، وهو أيضا المجال الذي يتيح للممثلة أن تقدم دورا مركبا وصعبا.

ومن يذهب لمشاهدة الفيلم على أمل أن يرى الفساتين الجميلة التي أبدعتها المدموازيل كوكو، لن يجد ضالته بشكل كامل. لكن من يسعى لقصة تستعيد سيرة نادرة في زمن ماض، تتراوح بين الإحباط والإشراق، سيخرج من الصالة سعيدا بدفقة المتعة التي تلقاها.