قميص غزة على الطراز الفارسي.. تمخضت إيران وصواريخها وفتواها فولدت «شكوى»

رفع الخميني قميص فلسطين عندما قرر تسليم مفاتيح السفارة الأميركية في طهران لعرفات وقال له: كما سلمناك هذه السفارة سنسلمك مفاتيح القدس

خيام للنازحين من غزة في مخيم للاجئين شمال جباليا بسبب حرب إسرائيل على غزة ( أ.ف.ب)
TT

المنطقة تقترب من الاشتعال الكامل، وعشاق اللعب بالنار سعداء، إن إيران وسورية تريدان حل مشاكلهما الخاصة وصنع نظام إقليمي جديد لصالحهما على حساب شعوب مصر وفلسطين ولبنان، والسمسار في هذه اللعبة هي المنظمات الموالية لإيران وسورية. هذا هو ملخص ما يدور في منطقتنا العربية كما أورده الدكتور فضل أو السيد إمام عبد العزيز شريف في كتابه «قميص غزة».

ويستكمل اليوم خاطرته التي بدأها في الحلقة السابقة عن إيران وقميص غزة فيقول: كان من أهم مبادئ الخميني تصدير ثورته إلى الدول الأخرى حتى يصنع حلفاء يدعمونه وبذلك تعيش ثورته ولا يقضى عليها. ونظرا للنفور القديم بين السنة والشيعة فقد لجأ الخميني إلى عدم الكلام في الخلافات بين السنة والشيعة ثم أراد الإمساك بورقة قضية إسلامية مهمة تجمع حوله المسلمين: سنة وشيعة. ولم يكن هناك ورقة أفضل من فلسطين (أم القضايا) وهي نفس الورقة التي لجأ إليها أيضا بن لادن كما قال تابعه أيمن الظواهري (إن الحقيقة التي يجب التسليم بها هي أن قضية فلسطين هي القضية التي تلهب مشاعر الأمة المسلمة منذ خمسين عاما.. لذا يجب على الحركة الإسلامية المجاهدة أن ترفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة: الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى المبارك، بهذا تجتمع لها أزمّة قيادة الأمة المسلمة وتلتف حولها قلوب المسلمين في بقاع الأرض) ص183- 184 من كتابه (فرسان تحت راية النبي) ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كتبه الظواهري قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. فقضية فلسطين عندهم ما هي إلا شعارات للوصول إلى قيادة الأمة المسلمة، أين هم من مذبحة غزة الآن؟

وكان مما فعلته إيران للإمساك بورقة فلسطين: الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران عام 1980 واحتجاز الدبلوماسيين بها كرهائن، وهذا التصرف مخالف لشريعة الإسلام التي تؤمّن الرسل والسفراء (وهم الدبلوماسيون في المصطلح المعاصر) وتنهي عن التعرض لهم بأذى، ولما قدم رسولا مسيلمة الكذاب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهما (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود. ثم سلمت إيران السفارة لياسر عرفات (لتكون سفارة لفلسطين في طهران) وقالوا لعرفات كما سلمناك هذه السفارة سنسلمك مفاتيح القدس. أي أنهم قد صاروا هم أصحاب قضية فلسطين (أم القضايا).

ثم حدثت جفوة بين ساسة إيران وبين عرفات، فقد كانوا يريدونه تابعا لهم (وبذلك يكونون أوصياء على فلسطين وقادتها)، في حين كان عرفات يريد أن يخدمه الكل وينفذوا طلباته لأنه أبو القضية. فلم تستمر العلاقة بينهما. كما لم ترحب معظم الدول العربية بإيران الخميني باستثناء سورية والجزائر. فلجأت إيران إلى المنظمات الشعبية للالتفاف على الحكومات، ولتكون بيدها أوراق سياسية تتدخل بها في الشئون الداخلية والخارجية لدول المنطقة فلا يتم حل مشكلة إلا عن طريقها وبالثمن الذي تطلبه. ومن هذه الأوراق:

حزب الله في لبنان: وهو إيراني الصنع والتبعية (100%) وصرح زعيمه حسن نصر الله أن في عنقه بيعه للولي الفقيه في طهران. وإنما صنعته إيران لفشلها في احتواء حركة أمل الشيعية في لبنان وصنعته وقت انهيار الدولة اللبنانية 1982.

منظمة الجهاد الإسلامي الفلسطيني: مؤسسها د. فتحي الشقاقي، وهو أيضا من إخوان فلسطين ومن تلاميذ الشيخ أحمد ياسين، ولكنه بدأ الجهاد قبل حماس، كما بدأ علاقته بإيران قبلهم منذ أن كان طالبا بمصر عام 1980، وتأثر بثورة إيران وألف كتابه (الخميني: الحل الإسلامي والبديل).

منظمة حماس: بدأت علاقتها بإيران مع إبعاد إسرائيل بعض قادتها ـ بعد الانتفاضة الأولى ـ إلى مرج الزهور بجنوب لبنان (ومنهم عبد العزيز الرنتيسي)، وفي لبنان اتصل بهم حزب الله وأقنعهم بالتواصل مع إيران وسورية ـ لتكثر أوراقهما السياسية ـ وكانت حماس شديدة النفور من سورية بسبب ارتكابها مذبحة حماة ضد الإخوان المسلمين عام 1982 كما ذكرته من قبل. ولكنهم تخطوا هذه العقبة من أجل المصالح المتبادلة.

تنظيم الشباب المؤمن (الحوثيون) بشمال اليمن: وكانوا شيعة زيدية فتحولوا إلى شيعة اثنى عشرية وصار ولاؤهم لإيران ويسيطرون على مناطق كبيرة بشمال اليمن اليوم.

وهناك تجمعات شيعية أخرى ولاؤها لإيران: في باكستان وأفغانستان والهند والعراق وغيرها، وتستخدم إيران السياسة لنشر مذهبها، كما تستخدم المذهب (التجمعات الشيعية والموالية) لخدمة سياستها. والهدف النهائي تحقيق مصالحها الشخصية على حساب شعوب المنطقة. فمن الذي دفع ثمن مغامرات حزب الله وحماس؟ إنها شعوب لبنان وفلسطين. ومن الذي يكسب؟ إنها إيران. وهكذا قال نائب الرئيس الإيراني رضا أغا زاده: «إن بدء مفاوضات مع المجتمع الدولي بشأن الملف النووي الإيراني قد تؤدي إلى حل الكثير من المشاكل مثل العراق ولبنان وأفغانستان أو أسعار النفط» (الشرق الأوسط) 25 يوليو (تموز)2008، وهذا معناه أنه كلما ازدادت المشاكل وتعقدت فهذا في مصلحة إيران، ومن هذا ما يجري في غزة الآن.

عقب ثورة الخميني 1979 وقعت مذبحة حماة ضد الإخوان المسلمين في سورية، وحدثت جفوة بين البلدين، إذ كانت إيران في ذلك الوقت تعتبر نفسها زعيمة العالم الإسلامي وكانت تتعاطف مع الإخوان. ومع حاجة إيران للتواصل مع شيعة لبنان كان لا بد لها من تحسين علاقتها بسورية، وأشرف على ذلك وزير خارجية إيران الأسبق علي أكبر ولاياتي. وعندما بدأ تدفق قوات حرس الثورة الإيراني على لبنان عبر مطار دمشق، مزّق أفراد هذا الحرس صور حافظ الأسد المعلقة في المطار عام 1982 بسبب مذبحة حماة. ثم تناسوا هذا الأمر، وهذه القوات هي التي أنشأت حزب الله في لبنان ودرّبته.

ولقد قامت إيران بدعم المنظمات الشعبية الموالية لها دعما سخيا حتى صارت على درجة من القوة تناطح بها حكومات بلادها، ففي لبنان: حزب الله يناطح بقوته حكومة لبنان، وفي فلسطين: حماس تناطح حكومة أبي مازن، وفي اليمن: الحوثيون يناطحون حكومتهم، وفي العراق: الأحزاب الشيعية الموالية لإيران هي الحاكمة في العراق، وهذا الوضع قابل للتكرار في بلاد أخرى.

وإذا كانت إيران قد قامت بالالتفاف على ياسر عرفات فدعمت منظمات فلسطينية ـ مثل حماس والجهاد ـ لتكون لها يد وأوراق في فلسطين (أم القضايا)، فإن سورية قد أخذت على عاتقها تحطيم عرفات: فدعمت نفس المنظمات السابقة، ودعمت كل منشق على عرفات، بل قامت بصنع الانشقاقات بنفسها كما صنعت منظمة (فتح الانتفاضة ـ أبو موسى) لتكثر المنظمات وتضعف وتكون طوع أمرها لتلعب بها براحتها، حتى زادت المنظمات الفلسطينية عن العشرة. ولما عجزت سورية عن الدخول في حرب مواجهة مع إسرائيل على مدى 35 سنة (1973 ـ 2008) لاسترداد أرضها المحتلة (الجولان) فقد لجأت سورية إلى دعم المنظمات غير الرسمية لتحارب إسرائيل نيابة عنها سواء في لبنان (حزب الله) أو في فلسطين (حماس والجهاد وغيرها) ـ بقميص تحرير لبنان وفلسطين ـ حتى تقدم إسرائيل تنازلات لسورية. والذي يدفع ثمن هذه الحرب غير المباشرة بين سورية وإسرائيل هي شعوب فلسطين ولبنان.

واليوم حماس تتلقى التعليمات من إيران وسورية وتريد أن يسدد شعب مصر فاتورة مغامرتها في غزة وتطحن شعبها في غزة. والقصة باختصار: هي أن إيران وسورية تريدان حل مشاكلهما الخاصة وصنع نظام إقليمي جديد لصالحهما على حساب شعوب مصر وفلسطين ولبنان ـ لا شعبي إيران وسورية ـ وذلك بالخطب الحماسية والبيانات التخوينية، والسمسار في هذه اللعبة القذرة هو المنظمات الموالية لإيران وسورية.

إذا كانت إيران وسورية صادقتين في تحرير فلسطين، فلديهما أرض محتلة وحدود مشتركة مع إسرائيل في الجولان فليحاربوها. ولكنهما تريدان تحقيق مصالحهما بقميص فلسطين وعلى حساب تضحيات الآخرين. إيران وسورية هما أكبر من خدم إسرائيل بتفتيت وحدة الفلسطينيين بما أضعفهم، وكلها أمور قدرية يعاقب الله بها العصاة.

واليوم خرج مرشد الثورة الإيراني علي خامنئي ليرفع قميص غزة ويتاجر به، فأصدر فتوى (تهيب بالمسلمين في شتى أنحاء العالم الدفاع عن الفلسطينيين في غزة لمواجهة الهجمات الإسرائيلية بأي وسيلة ممكنة.. ودعت مجموعة من رجال الدين الإيرانيين إلى فتح باب التطوع للقتال في قطاع غزة، وأكدت وكالات الأنباء الإيرانية أن عدد المسجلين للالتحاق بالاستشهاديين في الأراضي الفلسطينية فاق الألف متطوع.. وكان آلاف الإيرانيين قد تظاهروا في طهران.. وهم يرددون: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل) (الشرق الأوسط) 30 ديسمبر (كانون الأول) 2008 ص7، ولشعب إيران، قد قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (البقرة44)، وقال تعالى: (... لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف2 ـ 3). إن كنتم أيها الإيرانيون وحلفاؤكم صادقين حقا في نصرة فلسطين وقتال أميركا وإسرائيل فهذه خيارات ميسورة لكم افعلوها كلها أو بعضها، ومنها:

اذهبوا إلى إسرائيل وقاتلوها لتخففوا ضغطها على غزة، وأنتم تعرفون جيدا كيف تصلون لإسرائيل كما يصل سلاحكم إلى حزب الله عبر سورية إلى لبنان.

وإذا تعذّر عليكم هذا، فإن القاعدة الفقهية تنص على أن (الميسور لا يسقط بالمعسور)، ومرشدكم خامنئي قال (بأي وسيلة ممكنة)، ومن الممكن: أن يفتح فرعكم في لبنان (حزب الله) جبهة ضد إسرائيل، أو أن تفتح حليفتكم سورية جبهة ضد إسرائيل لتسترد أرضها المحتلة (الجولان) ولتخفف الضغط على غزة.

وإذا تعذّر هذا فقاتلوا الشيطان الأكبر (أميركا) وهو موجود على حدودكم الشرقية في أفغانستان والغربية في العراق، وقتالهم واجب عليكم لقول الله تعالى: (... قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ...) (التوبة123)، لماذا لم تقاتلوا أميركا وهي على حدودكم منذ 2001م؟ لماذا لم ترسلوا الألف استشهادي إليها أو إلى إسرائيل؟ أين الشعارات (الموت لأميركا، الموت لإسرائيل)؟

وإذا تعذّر القتال بأي صورة، فإن الكلام أسهل، فليصدر مرشدكم خامنئي فتوى ولو لشيعة أفغانستان والعراق: بوجوب جهاد أميركا فيهما، وهذا فرض عين عليهم من دون فتوى. ولكن حتى هذه الفتوى لم يصدرها لا خامنئي ولا مرجعيات الشيعة في العراق، بل العكس هو الذي حدث، فقد قال الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد: «إن إيران ساعدت أميركا في حربها في أفغانستان والعراق». (الشرق الأوسط) 27 سبتمبر (أيلول) 2008 ص13. فأين إذن شعار (الموت لأميركا والموت لإسرائيل) وقد ساعدت إيران أميركا على احتلال بلدين من بلاد المسلمين؟.

ماذا فعلت إيران في محنة غزة الحالية: (قررت الحكومة الإيرانية تشكيل وفد خبراء من رجال القانون الإيرانيين البارزين لتنظيم شكوى خاصة لرفعها إلى المحاكم المحلية والدولية المختصة ضد القادة الإسرائيليين) (صحيفة المصري) 30 ديسمبر (كانون الأول) 2008 ص4، تمخضت إيران وصواريخها وفتواها فولدت شكوى.

عندما قام بن لادن بتفجير السفارة الأميركية في نيروبي أغسطس (آب) 1998 قام الأمن الإيراني بإصدار تعليمات للجماعات الإسلامية المختلفة المقيمة بإيران: قيّدوا فيها تحركاتهم ومنعوهم من الاتصالات التليفونية وقالوا لهم: «أنتم تريدون أن تخربوا بيوتنا، نحن لدينا سبعون مليون مواطن نحن مسؤولون عنهم، وغير مستعدين لتحمل تبعات مغامراتكم». هذه هي المواقف الرسمية الإيرانية الحقيقية. فهل يمكن أن يطلق هؤلاء صاروخا على أميركا أو إسرائيل؟ وشيعة العراق قتلوا الفلسطينيين بعد 2003 باعتبارهم حلفاء صدام حسين.

ولكن لا مانع لديهم من المتاجرة بقميص فلسطين وقميص غزة، والموت لأميركا والموت لإسرائيل، شعارات لا تكلف شيئا إلا مظاهرة وميكروفون وحرق العلم.

وكما ظهرت في السنوات الماضية اللجنة الرباعية الدولية لمتابعة قضية فلسطين فقد ظهرت أيضا اللجنة الرباعية الإقليمية (إيران ـ سورية ـ الإخوان ـ حماس)، أما حزب الله فهو تابع لإيران، فرضت هذه اللجنة الإقليمية وصايتها على فلسطين بحيث لا تحل مشكلة إلا عن طريقهم، وكلما زادت مشاكل فلسطين زادت أوراقهم ومكاسبهم، ولو على حساب حرق غزة ولبنان، وعندما يُطلب منهم التدخل لحل المشاكل يفرضون مطالبهم التي تدفع ثمنها شعوب المنطقة التي تفكر بآذانها لا بعقولها، ولهذا فهذه الشعوب هي التي تدفع الثمن (قتلى وخراب) والساسة يضحكون ويكسبون. والرابح اليوم من كارثة غزة هم: إيران وسوريا وحماس التي أشعلت الحرب ثم افتخرت بسلامة تنظيمها (في الفنادق والخنادق)، لتحصل على الاعتراف الإقليمي والدولي كطرف في المفاوضات، ولتمهد لسيطرتها على الضفة الغربية، ولو على حساب حرق غزة وأهلها، في سبيل السلطة.

* غدا الحلقة السادسة: لا تسلم عقلك لغيرك.. هذا يسرقك بقميص أميركا.. وهذا بقميص فلسطين