الأزمة الاقتصادية في صلب مهام أوباما منذ اليوم الأول

يحاول القضاء على «الريغانية».. وإرثه يعتمد على كيفية الخروج من الركود

TT

بات واضحا أن الاقتصاد سيشكل العامل المحدد لما إذا كان باراك أوباما سيحقق ما لم ينجزه سوى القليل من الرؤساء الأميركيين: تحول هائل في الحياة السياسية الأميركية يشكل إرثا قائما بذاته. والتساؤل الذي يفرض نفسه الآن: هل سينجح أوباما في تقديم تحول على غرار «الاتفاق الجديد» أو «المجتمع العظيم» أو «الثورة الريغانية»؟ المؤكد أن المناطق الأجنبية الساخنة مثل أفغانستان وكوريا الشمالية وغيرهما، ستمثل اختبارا لأوباما. ومع ذلك، يبقى الاقتصاد المتردي التحدي المميز لفترة رئاسته ومحور النصيب الأكبر من اهتمامه وجهوده ومغامراته خلال الأيام المائة الأولى من رئاسته.

بطبيعة الحال، تلك الأيام المائة لا تعدو كونها البداية، ذلك أن الفترة الماضية ضئيلة للغاية بحيث لا تسمح بتحديد النتائج المترتبة على قرارات أوباما (ناهيك عن مدى حكمتها). إلا أنها كافية لتحديد المسار الذي اختاره أوباما، والفلسفة العامة التي ستصوغ إدارته وحكم التاريخ عليها في نهاية الأمر. وقالت «الاسوشييتد برس» في تقرير لها، إن أوباما يعمل على إثبات عكس مقولة الرئيس الجمهوري رونالد ريغان الشهيرة بأن الحكومة هي المشكلة، وليس الحل. في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية منذ ما يزيد على نصف قرن، يعمد أوباما إلى زيادة دور الحكومة في الإشراف على المصارف ومساعدة ملاك المنازل على تجنب مصادرة منازلهم، بل تحديد من يتولى إدارة شركة «جنرال موتورز» أو يندمج مع «كرايسلر إل إل بي». ومن خلال إغداقه مليارات الدولارات على هذه الجهود، يتسبب أوباما بذلك في تفاقم عجز هائل بالميزانية الفيدرالية، يمكن أن يسبب مشكلة كبرى له وللبلاد حال عدم انحساره بمعدل كبير خلال السنوات القليلة القادمة. وقال ويليام غالستون، الخبير بمعهد بروكنغز والمسؤول السابق بإدارة كلينتون، لوكالة «الاسوشييتد برس»، أنه مثلما سعى ريغان، الجمهوري، للقضاء على برنامج «المجتمع العظيم» الذي مولته حكومة الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون، فإن أوباما «يحاول القضاء على إرث ريغان والريغانية». والمؤكد أن أجندة أوباما الداخلية ستتسم بضخامة بالغة حتى إذا ما اقتصر تركيزه على إحياء الاقتصاد المحتضر وتناول أسباب الركود، بما في ذلك عمليات الإقراض غير الخاضعة لتنظيم محكم وسوق العقارات المنهارة. لكن أوباما تمادى إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، بناء على اعتقاده بأن الأزمة خلقت البيئة المثلى لإجراء تغييرات كبرى عبر الكونغرس. وعليه، نجده يقترح توسيعا هائلا في نطاق التأمين الصحي، وزيادة الإنفاق الفيدرالي على التعليم والطاقة ووضع إستراتيجية لتقليص انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري من خلال فرض أسعار مرتفعة على إنتاجها. ويرفض أوباما ادعاءات بعض المشرعين بأنه يحاول تحقيق عدد كبير من الإنجازات بصورة مفرطة في آن واحد. مؤخرا، قال أوباما: «كنت أتمنى لو أن هذه المشكلات جابهتنا كُلا منها على حدة بدلا من خمس أو ست في نفس الوقت. إن هذا الأمر يتجاوز ما تعين على معظم دورات انعقاد الكونغرس وغالبية الرؤساء التعامل معه على مدار حياتهم». لكن حان الوقت الآن للتعامل معها. حتى الآن، يبدي الأميركيون قدرا كبيرا من الثقة في قدرة أوباما على تحسين الأوضاع الاقتصادية. على سبيل المثال، كشف استطلاع للرأي أجرته مؤخرا «أسوشييتد برس» بالتعاون مع «جي إف كيه روبر ببليك أفيرز آند ميديا» أن 41% ممن شملهم الاستطلاع، يرون أن الوقت الراهن مناسب لشراء أسهم، مقارنة بـ33% في ديسمبر (كانون الأول). ورغم ذلك، تتصاعد مشاعر القلق حيال تنامي العجز. والملاحظ أن أعلى معدل رفض لسياسات أوباما في إطار الاستطلاع سالف الذكر، تعلق بقضية أسلوب تعامله مع العجز في الموازنة، حيث وصلت نسبة المعترضين إلى 41%. ويعتقد بعض كبار الخبراء الاقتصاديين أن المخاطرة الأكبر أمام أوباما تكمن في تدخل الحكومة على نحو بالغ الضآلة، وليس بالغ الضخامة، وهي خطة اقتصادية لا تصل لمستوى تأميم المصارف الكبرى وتعتمد على مزيج لم يسبق تجريبه من قبل من عمليات الشراء العامة والخاصة لأصول شهدت قيمها تراجعا حادا. ويقول جوزيف ستيغليتز، الخبير الاقتصادي البارز بجامعة كولومبيا، في إطار لقاء أجري معه، أن «إعادة هيكلة النظام المصرفي يشكل بوضوح خيبة الأمل الكبرى». واعترف ستيغليتز بأن الرئيس يواجه عددا من الخيارات البغيضة، إلا أنه أبدى قلقه إزاء عدم رغبة أوباما، رغم كل التحولات التي أقرها في سياسات البلاد عن نهج سلفه الرئيس جورج بوش، في إقرار تغييرات في المؤسسات المالية بالعمق اللازم. ولا تقتصر وجهة النظر تلك على ستيغليتز، ففي مقال نشره في «نيويورك تايمز»، وصف الخبير الاقتصادي بول كروغمان خطة أوباما بأنها مقترح «النقد مقابل النفاية»، وأكد أنها تملؤه «بشعور باليأس». وأضاف كروغمان أن المستثمرين من القطاع الخاص سيستفيدون حال استعادة «الأصول السامة»، المعتمد بصورة رئيسية على رهون عقارية فاشلة، بعض من قيمتها، بينما سيخسر دافعو الضرائب حال عدم حدوث ذلك. وفي خطاب أمام جامعة جورج تاون ألقاه هذا الشهر، تناول أوباما هذا النقد بقوله إن الناس يسألونه: «لم لا تتخذ نهجا أكثر صرامة إزاء المصارف؟» يكمن السبب في أن إدارته لم تقدم على السيطرة على المصارف. وقال أوباما إن السبب: «لا علاقة له قطعا بشعورنا بالقلق حيال الإدارة وحاملي الأسهم الذين ساعدت أفعالهم في خلق هذه الفوضى. وإنما لاعتقادنا بأن عمليات السيطرة الحكومية ذات الطابع الاستباقي من المحتمل أن تكبد دافعي الضرائب مزيدا من الأموال في نهاية الأمر، ولأنها من المحتمل بدرجة أكبر أن تقوض، بدلا من أن تخلق، الثقة». وهناك الكثير من الجوانب الأخرى لأجندة أوباما الاقتصادية، التي تتنوع التقديرات المبدئية لها من الجيدة إلى أخرى ترى أنه ما زال من المبكر للغاية وضع تقييم. والمعروف أن مشروع قانون التحفيز الاقتصادي بقيمة 787 مليار دولار، فاز بدعم جمهوري ضئيل داخل الكونغرس ولم تتضح نتائجه بعد. وقد توصل استطلاع «أسوشييتد برس» و«جي إف كيه» إلى أن 57% ممن شملهم الاستطلاع قالوا إنه من المبكر للغاية الحكم على ما إذا كانت إجراءات التحفيز الاقتصادي ساعدت في دفع عجلة الاقتصاد.

ومحاولات الإدارة الحد من إجراءات مصادرة المنازل تضمنت عرض حوافز على المقرضين لتعديل شروط القروض مرتفعة المخاطر. كما تدعو الإدارة إلى شراء الحكومة لأوراق مالية مدعومة برهون عقارية وإقرار إشراف فيدرالي أكبر على الاستثمارات المشتقة، التي شكلت عاملا جوهريا في الانهيار الاقتصادي الذي ضرب البلاد. علاوة على ذلك، تثير جهود أوباما لإصلاح نظام الرعاية الصحية جدالا كبيرا، وما تزال الاستجابة النهائية للكونغرس في هذا الصدد غير واضحة. ومن بين الأمور المثيرة للجدل على نحو خاص، أفكار أوباما بشأن إنشاء برنامج عام للتأمين الصحي ينافس الخطط الخاصة، وتمويل خطة باستطاعتها تقليص الإعفاءات الضريبية التي يتمتع بها الأثرياء فيما يخص تبرعاتهم الخيرية. ومن غير الواضح بعد، ما إذا كان أوباما سيتمكن من تحقيق هدفه المنشود المتمثل في تقليص انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري. والملاحظ أن مقترحه بالسماح للشركات بشراء وبيع الحق في إطلاق مثل هذه الغازات، لا يلقى قبولا واسعا داخل الكونغرس، لكن لم يظهر بعد أي بديل قوي. في الوقت الراهن، لا يبدي أوباما تراجعا عن استراتيجيته القائمة على تناول كافة القضايا المطروحة دفعة واحدة، رغم أن هذا ربما يشكل عبئا كبيرا على الكونغرس. وفي خطابه بجامعة جورج تاون، قال أوباما: «إذا لم نستثمر الآن في الطاقة المتجددة، وفي قوة عمل ماهرة، ونظام رعاية صحية بأسعار مناسبة بدرجة أكبر، فإن هذا الاقتصاد لن ينمو بالمعدل اللازم خلال سنتين أو خمس أو عشر». على امتداد الشهور والسنوات القادمة، ستصدر أعداد لا حصر لها من جماعات المصالح تقارير حول خطته. أما بالنسبة للأيام المائة الأولى من رئاسته، فقد أوجزها غالستون بقوله: «حزمة التحفيز، ما تزال قيد التفحص. بالنسبة لسوق العقارات وإنقاذ الرهن العقاري، ما زال من المبكر للغاية الإدلاء بتقييم محدد. أما إنقاذ المؤسسات المالية، فربما ليس على مستوى الجرأة المطلوب. وبالنسبة للإصلاح التنظيمي، فقد بدأت المناقشات حوله». ويرى غالستون أن تلك «ليست بداية سيئة».