البغداديون بين الرغبة بالانسحاب الأميركي والخشية من رحيلهم

مشهد يومي من حياة مدينة تزدحم بالناس والسيارات.. والمصفحات الأميركية

TT

بغداد تبدو من خلال نافذة الطائرة، وقبل أن تحط في مطارها الدولي، غارقة تماما في شعاع الشمس، شمس قوية وساخنة حتى في ساعات الصباح الأولى، العاشرة صباحا حسب التوقيت المحلي، وفي فيض هذا الضياء تتوضح كل مشاهدها ومناظرها من غير أي تزويق إعلامي أو غيره، وأول هذه المشاهد الصادمة التي لا يمكن أن ترصدها إلا من خلال نافذة الطائرة، قبل أن تحط على مدرج مطار بغداد الدولي، هو قصر الرئيس العراقي السابق، قصر الرضوانية، الواسع، والمبني وسط بحيرة كبيرة، حيث يتوضح المشهد أكثر مع اقتراب الطائرة من الأرض عند ذاك سيكون بإمكانك أن تشاهد الجنود الأميركيين، وهم يعومون في مسبح القصر هربا من حرارة الصيف العراقي المبكر.

هذا المشهد الجوي يعطي انطباعا أولياً بأن القوات الأميركية لا تزال في مواقعها، إذ تتخذ من بعض قصور صدام حسين مراكز لقياداتها، وأن هذه القوات لن تغادر العراق مبكرا، همس في أذني رجل أعمال عراقي كان يجلس جانبي وهو يراقب، مثلما أنا، مشهد القصر، قائلا، «مثل هذا القصر وغيره يصلح لأن يكون فندقا ذا سبعة نجوم، أو مرفقا سياحيا»، قلت ربما بعد خروج القوات الأميركية، ابتسم وأشاح بوجهه، مستطردا «هذا إذا خرجوا بالفعل». الشارع العراقي غير واثق على الإطلاق من خروج القوات الأميركية من العراق، فالمشهد الواقعي على الأرض يعزز ما شاهدناه من خلال الجو، القوات الأميركية لا تزال تنتشر في كل مكان، وعرباتها المصفحة، ما زالت تدوس إسفلت الشوارع لتزيد من الازدحامات التي تختنق بها العاصمة العراقية، وعند مؤخرة كل عربة مصفحة ذات العبارة «لا تقترب.. قوة مميتة».

الشارع المؤدي من مطار بغداد الدولي حتى مركز المدينة تحسن كثيرا، أعيد تعبيده وطلاء علاماته المرورية، كما أعيدت إلى جانبيه العوارض الحديدية التي كانت الدبابات الأميركية قد سحقتها لتسهيل حركتها، وأطلق على الشارع تسمية «شارع بغداد»، وخلا من أي نقطة تفتيش باستثناء النقاط القريبة من المطار، لكن المودعين والمستقبلين ما زالوا يتوقفون عند ساحة تبعد مسافة أكثر من ثلاثة كيلومترات عن المطار.

أمور كثيرة تتغير في الشارع العراقي، أولها انتشار نقاط التفتيش التي صارت اقل بكثير مما كانت عليه في العامين الماضيين، الأهم من هذا هو أن المواطن صار يعرف أن هذه هي نقاط أمنية تابعة إما للجيش أو الشرطة العراقية، بل إن أسلوب ولهجة أفراد القوات الأمنية تغيرت كثيرا، منذ أن تدخل بناية المطار النظيفة والمزدهرة بالأضواء، حيث يستقبلك الضباط الامنيون بابتسامات عريضة، هذا المشهد ما كان العراقي حتى يحلم به في السابق، ضباط امن يستقبلون الناس بابتسامات عريضة مع تسهيل إجراءات ختم الجوازات، بينما تنظم الدولة موضوع توفير سيارة أجرة تقلك بكل أمان إلى هدفك، فهذه السيارات وسائقوها مسجلون لدى الدولة، ولا خشية منهم على حياتك وممتلكاتك.

يشرح السائق أبو علي، هكذا عرف نفسه، قائلا «نحن في الأصل كنا موظفين في دائرة المراسم كسواق سيارات، وبعد 2003 تحولنا إلى سواق في المطار، فهذه سيارات الدولة، ونحن نعمل بها برواتبنا بالإضافة إلى ما يمنحه الراكب لنا من أجرة يجب ألا تقل عن 75 ألف دينار عراقي، ندفع منها 50 ألف إلى الدولة، ويكون الباقي لأغراض توفير الوقود وتصليح السيارة».

وأبو علي، وحسبما يؤكد هو سني ينحدر من مدينة حديثة، وأطلق اسم علي على ابنه الوحيد تيمنا باسم الإمام علي بن أبي طالب»، عمر العراقيين ما فرقوا بين سني وشيعي أو كردي وعربي، أو حتى بين مسلم ومسيحي، لكن عندما اشتدت الهجمات الطائفية وبعد مقتل مديرنا في العمل كونه مسيحيا تركت العراق عام 2006 وعدت بعد فترة»، يشرح أبو علي، ويستطرد قائلا «الآن الحمد لله الأمور الأمنية أفضل بكثير على الرغم من عودة التفجيرات والسيارات المفخخة».

العراقيون ووسط حالات من الفوضى الأمنية غير المستقرة صاروا يؤمنون أكثر من غيرهم بنظرية المؤامرة، ولديهم أكثر من تفسير لعودة التفجيرات، فبينما يؤكد محسن البطاط، صراف في منطقة الحارثية بجانب الكرخ من بغداد أن «هذه التفجيرات وراءها القوات الأميركية كي لا تترك العراق، وأن هذه القوات تريد أن تبرهن للحكومة العراقية والعالم بأن الأمن لن يستقر من دونها». ويتساءل «كيف لنا أن نصدق أن الاميركان سوف يتركون البلد النفطي الأول في العالم بعد أن ضحوا بحياة جنودهم وأموالهم، إنهم حتى لم ينسحبوا من شوارعنا».

بينما يؤكد رزكار بكر، محام كردي عراقي، أن «القاعدة وراء هذه التفجيرات لأنها خسرت الكثير من مواقعها»، ويرى أن «معاداة الحكومة للصحوات سوف تشجع القاعدة على القيام بمزيد من نشاطاتها الإرهابية»، لكن جراحا عراقيا يعمل في مدينة الطب، لم يشأ أن ننشر اسمه لأسباب أمنية، يؤكد أن «إيران ضالعة بدور كبير في هذه التفجيرات»، وعندما نقول له بأن عددا كبيرا من ضحايا هذه التفجيرات كانوا من شيعة العراق، بل من الإيرانيين من زوار العتبات المقدسة في العراق، يقول «وهل يهم إيران سواء كان الضحايا من السنة أم الشيعة؟».

، لكن حيدر الخفاجي، صاحب محل لبيع الكمبيوترات، يجد أن «قوات الصحوة تساهم بجزء من هذه التفجيرات لأنها تتمتع بخبرة نتيجة عمل أفرادها مع القاعدة في السابق، وحتى تؤكد للحكومة خطأها بالاستغناء عنها».