مدير سينما عراقي يتذكر فترات الازدهار

تحدّث بامتعاض عمن يرتادون دار العرض التي يديرها في الوقت الحاضر

سعد هاشم تولى إدارة دار سينما على امتداد 39 عاما، منذ كان في السادسة عشرة من عمره وكان بحاجة إلى عمل كي يسدد مصاريف الدراسة (لوس أنجليس تايمز)
TT

وقف أحد المارة يمعن النظر في أحد الملصقات المعلقة الذي يحمل صورة امرأة ترتدي القليل من الملابس، واستمر في التحديق إليها في أثناء سيره أمام الحواجز المعدنية القائمة أمام دار «أتلاس» للسينما. فيما مضى، عندما كان شارع «سعدون» يعج بالحركة، كانت صورة رجل يداعب رقبة امرأة كفيلة باجتذاب أعداد غفيرة من الجماهير. لكن في الوقت الحالي، يعصف الهواء بالقمامة أمام دار العرض، بينما يقبع رجل أصلع داخل كشك يحارب شعورا قويا بالملل وينتظر قطع التذاكر للعملاء.

داخل دار السينما، يجلس المدير سعد هاشم خلف مكتب، ويزين الجدار خلفه وجه مبتسم لمطرب سوري. تولى هاشم، الذي يغطي الشعر الأبيض رأسه، إدارة دور سينما على امتداد 39 عاما، منذ أن كان في السادسة عشر من عمره، وكان بحاجة إلى عمل كي يسدد مصاريف الدراسة. في بعض الأحيان راوده حلم العمل مصورا سينمائيا، لكن ذلك لم يتحقق قط (ويفسر ذلك بأنه كان شيعيا مسلما في العراق تحت قيادة السنة في عهد صدام حسين).

وبغضّ النظر عن السبب الحقيقي، لا تزال الأفلام تجتذبه حتى اليوم. وعن هذا الأمر قال هاشم: «عندما أشاهد فيلما، أنسى كل ما حولي، ولا أكون على استعداد للتوقف عن المشاهدة للقيام بأي عمل، أو الحديث إلى أي شخص!». وتحدث هاشم بفخر عن مرتادي السينما في الماضي مؤكدا أنهم «كانوا أناسا متعلمين: ضباطا ومسؤولين حكوميين وطلابا». وأضاف أن الأسر و«الشخصيات المهمة في المجتمع» كانوا يحجزون مقاعد عبر الهاتف. وكان هاشم يلتزم بتوجيه اهتمام أكبر إليهم. وعندما كانوا يصلون، كان يبعث بحاجب لاستقبالهم وإدخالهم إلى الدار. لكنه كان دوما يصر على أن يسلّموا أي أسلحة بحوزتهم حفاظا على سلامة الجمهور، لأن المسدسات كان محظورا اصطحابها إلى دور العرض. أما اليوم فتمر الساعات بطيئة عندما يكون في العمل. وتحدّث هاشم بامتعاض عمن يرتادون دار العرض التي يديرها في الوقت الحاضر، مشيرا إلى أن كل اهتمامهم ينصبّ على مشاهدة ولو جزءا صغيرا من جسد أي امرأة.

وقال: «إنهم أناس غير متعلمين، ولا يدرون أي شيء عن السينما، ولا يأبهون بموضوع الفيلم، وإنما كل ما يريدونه قضاء بعض الوقت ومشاهدة بعض اللقطات لأجساد نساء».

ولا يزال هاشم يذكر عندما كانت الجماهير تصطفّ أمام الدار، تحديدا شباك الحجز. ولم يكونوا يأبهون لما إذا كان الفيلم قديما، خصوصا أن الأفلام القديمة كانت كل ما يستطيع الحصول عليه في التسعينات، عندما أصيبت صناعة الأفلام العراقية بالشلل جراء العقوبات الدولية. وكان هاشم يشتري أفلاما يجري عرض الواحد منها على مدار شهر، ويمكن تمديد الفترة إذا ما لاقى إقبالا. وتنوعت الأفلام ما بين «رامبو» والأفلام الرومانسية الفكاهية وأفلام بوليوود من الهند. وكان هاشم يتولى تنظيم حملة دعائية ويرسل شبابا يجوب الشوارع سيرا على الأقدام وداخل السيارات صائحين باسم الفيلم، قائلين على سبيل المثال: «ساسكو أفضل الأفلام»، وهو أحد الأفلام الهندية التي حققت نجاحا لدى أبناء بغداد في أواخر السبعينات. ذات مرة، كان هناك فيلم مصري يُدعى «نحن لا نزرع الشوك» استمر عرضه 15 أسبوعا وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا لدرجة أن الأسر حملت معها أواني ساخنة إلى حديقة دار العرض كي تطهو طعامها انتظارا لبدء عرض الفيلم كي يشاهدوه. وذكر هاشم قائمة من الأفلام التي افتتن بها على مر السنوات: «سبارتاكوس» عام 1960، بطولة كيرك دوغلاس الذي لعب دور عبد يقود ثورة تمرد ضد الإمبراطورية الرومانية، وفيلما عن جيفارا، وفيلم «زد» اليوناني السياسي عام 1969...

قبل غزو عام 2003 كان في بغداد 40 دار سينما، أما الآن فتقلص العدد إلى ثمانٍ فحسب. في ما مضى كانت دار السينما تفتح أبوابها في الثامنة صباحا وتغلقها قبيل منتصف الليل، لكن اليوم تغلق دار السينما أبوابها في الواحدة ظهرا. وقال هاشم إن الدهماء وأراذل المجتمع هم فقط من يرتادون داره الآن.

ويحاول هاشم التوافق مع هذا التحول بعرض أفلام تتضمن مشاهد «خليعة» و«داعرة» لم يكن مسموحا بها في عهد صدام حسين بسبب الرقابة الصارمة. إلا أن دور سينما أخرى فضلت إغلاق أبوابها عن تلبية احتياجات السوق الجديدة. على سبيل المثال، وصف أصحاب دار سينما «النجوم» التي أغلقت أبوابها الآن جمهور المترددين على الدار بعد عام 2003 بأنهم «مدمنو مخدرات وكحوليات، وغير أسوياء». وقد أثار هذا التسيب الأخلاقي غضب الأحزاب الإسلامية التي توجه تهديدات إلى دور السينما من وقت إلى آخر. وقال هاشم: «بعض الأشخاص لا ندري إلى أي حركة ينتمون أتوا إلينا عدة مرات في دار السينما وأصدروا إلينا نصائح وأوامر. وأعربوا عن رغبتهم في عدم عرض أفلام إباحية. ثم اتفقنا معهم على تغطية الأجزاء الحساسة من الجسم».

لكن الرقابة كانت عبئا ثقيلا على عاتق هاشم الذي لم عجز عن تحمل مشهد الصورة المغطاة بالأسود على شاشة العرض. وعلق على الأمر بقوله: «عندما رأيت هذا الأمر، قررت التخلي عن مهنتي التي أعشقها». وأخبر هاشم الناس أنه حصل على فيزا للسفر إلى أوروبا، لكنه في حقيقة الأمر اختبأ بمنزله لمدة عام. وقال: «عندما تحسنت الأوضاع، عدت إلى عملي». وأعرب هاشم عن اعتقاده أن على السينما الاضطلاع بدور تربوي في المجتمع من خلال السمو بالأفراد. وأبدى دهشته إزاء الاختلاف بين العراق وإيران المجاورة، حيث يتولى رجال الدين مقاليد السلطة. وقال: «إيران دولة إسلامية، والسينما هناك شهدت تطورا، فهم ينتجون أفلاما تنافس على جوائز عالمية! إن الدين لا يحظر السينما». ومرة أخرى كال هاشم الاتهامات إلى رؤساءه، وقال: «إننا نعاني من بعض الأشخاص الذين لا يتفهمون دور السينما، ولا يأبهون للأفلام الاجتماعية أو الروايات العالمية أو الموضوعات الأخرى».

مؤخرا، أخبر وفد من مجلس مدينة بغداد هاشم برغبة الحكومة في إمداد العديد من دور العرض بأجهزة عرض جديدة وأنظمة صوت ومقاعد كجزء من خطة لتنمية صناعة الأفلام. وإذا ما تدخلت الحكومة بالفعل، قد يحيا الأمل مجددا داخل هاشم حيال استعادة الأفلام ازدهارها في العراق. وعلّق هاشم على هذا الأمر بقوله: «ربما»، وأضاف: «أشعر بالحزن لدى علمي بأن دار سينما أغلقت وتحولت إلى مكان مقفر».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»