«مملكة العمال» دولة مصغرة بلا حكومة.. وسكانها: لن نغادر مجددا فالحياة والموت سواء

«الشرق الأوسط» تدخل جبال قنديل بعد عواصف القصف الإيراني والتركي

خيمتان منصوبتان في قرية كردية على سفوح جبال قنديل
TT

الرحلة إلى جبال قنديل بإقليم كردستان العراق أو إلى «مملكة العمال» إذا جازت التسمية، تنطوي على كثير من المتعة، لا سيما أثناء فصل الربيع، حيث تتشح الجبال والرواسي الشامخات والهضاب والوديان السحيقة والقرى الكائنة على سفوحها المترامية ببساط أخضر، تطرزها الزهور الطبيعية بألوانها الحمراء والصفراء والبنفسجية، في منظر خيالي يسحر النواظر ويأسر القلوب، مثلما تنطوي على قدر من المخاوف من احتمال تجدد القصف المدفعي الإيراني بذريعة مطاردة مقاتلي حزب «الحياة الحرة» الكردستاني المناهض لإيران، الذي يتخذ من الشطر الشرقي لسلاسل جبال قنديل معاقل له، أو من غارات الطائرات التركية المقاتلة، التي تستهدف بين الحين والآخر القرى الكردية، بحجة دك معاقل حزب العمال الكردستاني المناوئ، الذي يتخذ من الشطر الغربي لتلك السلاسل الجبلية الناطحة للسحاب معاقل له.

في رحلتنا هذه المرة إلى «مملكة العمال»، والتي هي الرابعة منذ أن فرضت حكومة إقليم كردستان حظرا محكما عليها قبل نحو ثلاث سنوات، لم نسلك الطريق السالك الممهد بالأسفلت كما في المرات السابقة متنكرين بزي أبناء المنطقة، بل استعنا بدليل قروي من أهالي المنطقة ذاتها وسلكنا معا الشعاب الجبلية الشبيهة بالثعابين، والتي تبدأ من آخر قرية تابعة لقصبة سنكسر ضمن قضاء رانية بمحافظة السليمانية، مرورا بالوديان العميقة التي تشقها مياه نهر فرعي، وذلك تفاديا لعمليات التفتيش الدقيقة التي يخضع لها الركاب المتجهون إلى قرى مناطق قنديل في نقاط التفتيش الحكومية التي تحظر على الصحافيين العبور إلى جبال قنديل مهما كانت الأسباب.

وبعد مسير استغرق زهاء ساعة وربع الساعة مشيا على الأقدام بين صخور تلك الوديان المخيفة والتسلق في الجبال والهضاب حاملين كاميراتنا وحقائبنا الثقيلة، التففنا على نقاط التفتيش الرسمية في خط سير مقوس بطول نحو 20 كلم، حيث كان سائق الأجرة في انتظارنا في الضفة الأخرى حسب الاتفاق المسبق بيننا، فانطلق بنا مسرعا قبل أن تلحظ حركتنا دوريات الشرطة ورجال الأسايش (الأمن الكردي) التي تجوب المنطقة، فقطعنا مسافة تزيد عن 30 كلم، هي المسافة الفاصلة بين آخر نقطة تفتيش حكومية وأول نقطة تفتيش تابعة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني، على قمة رابية «كورتك» الشاهقة التي هي بمثابة البوابة الجنوبية لـ«مملكة العمال»، التي نقش على سفحها المقاتلون صورة عملاقة لزعيمهم عبد الله أوجلان، المعتقل في سجن جزيرة إيمرالي التركية منذ أواخر عام 1998، والتي استهدفتها الطائرات التركية خصيصا قبل أشهر، لكن المقاتلين أعادوا رسمها مجددا لتوحي للقادمين من جنوب الإقليم بأنهم يدخلون بقعة من كردستان تختلف في كل شيء عن سائر المناطق الأخرى. وعند المدخل، وبعد استفسارات مطولة عن أسباب الزيارة والجهة التي نقصدها وإجراء اتصالات لاسلكية بين مسؤولي النقطة ومراجعهم والتأكد من صحة معلوماتنا، سمح لنا بالتوجه نحو العمق، فعلى جانبي الطريق الجبلي الذي يعانق سلاسل جبال قنديل بدءا من جهته الجنوبية ضمن الرقعة الجغرافية لمحافظة السليمانية وصولا إلى نهاية جهته الشمالية ضمن الرقعة الجغرافية لمحافظة آربيل، هناك عدد كبير من القرى، بعضها في أسفل الوديان العميقة، والأخرى على سفوح الروابي والهضاب، ومنها على قارعة ذلك الطريق وهي الأوفر حظا والأكثر ازدهارا، حيث تتوفر فيها المدارس والوحدات الطبية التي تديرها مؤسسات حكومة الإقليم، التي وفرت لعدد من القرى النائية في المنطقة مولدات كبيرة للطاقة الكهربائية.

معظم القرى التي مررنا بها في طريقنا دبت فيها الحياة مجددا بعد أن عاد إليها عدد غير قليل من القرويين الذين كانوا قد نزحوا عنها العام الماضي جراء عمليات القصف التركي الإيراني المشترك، مثل قرى (زاركلي، بوكريسكان وماردو وبركردكه) التي ابتكر أهلها مولدات كهرومائية صغيرة الحجم لتوليد الطاقة الكهربائية بالاستفادة من مياه النهر الفرعي الجاري في الوادي العميق المحاذي لتلك القرى التي صارت تنعم بطاقة مجانية وعلى مدار الساعة، فيما لا يزال كثير من النازحين يفضلون العيش تحت الخيام البلاستيكية قرب بلدة قلعة دزة المحاذية للحدود الإيرانية على العودة إلى ديارهم، خشية أن يتكرر المشهد المأساوي الذي حدث قبل نحو أربعة أشهر، عندما استأنفت المدفعية الإيرانية قصفها لقرى المنطقة بعد عودة سكانها إثر الإعلان عن الاتفاق الذي أبرم بين حكومة الإقليم وإيران، القاضي بإيقاف عمليات قصف قرى جبال قنديل، حيث سقطت قذيفة مدفع على مسكن أحد القرويين فقتلت ابنه الوحيد. وقال عبد الله محمد أمين (36 عاما) من أهالي قرية زاركلي إن: «نصف سكان القرى النازحين عادوا إلى ديارهم خلال الشهرين الماضيين، ولكن بعد أن فقدوا كل ما كانوا يملكون من الممتلكات والمواشي التي نفق كثير منها جراء القصف، والبقية بيعت برخص التراب، لأنهم لم يكونوا قادرين على رعايتها، سيما خلال الشتاء الماضي». وأضاف أن: «القرويين العائدين، ومعظمهم أقارب بعضهم بعضا، باتوا لا يكترثون بالقصف الإيراني أو الغارات التركية، لأن الحياة والموت أصبحا سيان عندهم، من هول ما تجرعوه من مرارة ومآس أثناء نزوحهم، لذا قرروا العودة إلى ديارهم والموت فيها بكرامة، إذا كان قدرهم أن يموتوا تحت القصف المعادي الذي لا يميز بين المقاتل المسلح في الجبال والقروي الفلاح الأعزل»، وتابع يقول: «حتى أطفالي لم يعودوا يخافون من هدير الطائرات التي غالبا ما تجوب سماء المنطقة ليلا، ويحثون المقاتلين الذين يمرون من قرانا مر الكرام بإطلاق النار عليها من بنادقهم».

محمد أمين، الذي أصيبت ساقاه بشلل شبه تام عام 1997 إثر هجوم للقوات التركية على منطقة قنديل، شكا كثيرا من الأوضاع المادية المزرية لأسرته البائسة، وقال: «كنت أحد مقاتلي البيشمركة قبل أن تصيبني شظايا القذائف في إحدى المعارك. والآن لم أعد قادرا لا على حمل السلاح ولا على ممارسة الزراعة أو الرعي كما في السابق، وحكومة الإقليم أحالتني إلى التقاعد براتب شهري قدرة 150 ألف دينار عراقي فقط، ما يعادل 120 دولارا أميركيا، وهو مبلغ لا يكاد يسد رمق أطفالي». وهناك كثيرون ممن هم على شاكلة محمد أمين بعضهم فقد وظيفته والبعض الآخر أصيب بعاهات تعوق عمله، وغيرهم فقدوا منازلهم ومواشيهم وحقولهم وبساتينهم جراء القصف.

وفي كل قرية حللنا فيها كنت أسأل من ألتقيهم من القرويين إن كان مقاتلو حزب العمال يترددون على بيوتهم للحصول على وجبات الطعام أو يرغمونهم على أمور لا ترضيهم، وكانت الإجابات تأتي دوما بالنفي القاطع، والجميع أكد أن مقاتلي «العمال» لا يمرون بقراهم إلا كراما، ولا يسمح مسؤولوهم لأي مقاتل بتجاوز الحدود المرسومة له في التعامل الطيب مع القرويين وسكان المنطقة، مثلما لا يسمحون للمدنيين أيضا بتجاوز القانون أو اعتداء أي منهم على الآخر، وقال أحدهم: «إن المقاتلين يقومون بدور رجال الحكومة هنا، ويؤدون مهامهم بأمانة شديدة، وهذا ما يجعلهم محبوبين عند القرويين الذين لا يترددون في تقديم أي مساعدة لهم عن طيب خاطر والتي قلما يطلبونها، لأنهم مكتفون ذاتيا وليسوا بحاجة إلى أحد».

وقد حاولنا الاطلاع على طبيعة معيشة المقاتلين وخنادقهم وأماكن راحتهم، إلا أن المسؤولين رفضوا ذلك لأسباب أمنية، مؤكدين أن خنادق مقاتليهم هي في قمم الجبال الشاهقة التي يصعب الوصول إليها، ومنعونا حتى من تصويرها ولو عن بعد، طبقا لتوجيهات القيادة العليا للحزب التي تحرص بشدة على منع تسرب أي معلومة تخص أمن الحزب وسلامة مقاتليه. وقال أحد المسؤولين إن «المقرات الموجودة في جبال قنديل تشكل الخط الخلفي البعيد جدا عن ساحة الصراع مع تركيا، وخطوطنا الأمامية هي في عمق الجزء الشمالي من كردستان» أي داخل الأراضي التركية.

بوجيز العبارة، يمكن القول إن جبال قنديل التي تحتضن معاقل «العمال»، هي أشبه بدولة مصغرة، ولكن بلا رئيس أو وزراء أو رجال أمن أو سجون أو محاكم، ويحكمها منطق واحد، هو الحرية للجميع، شريطة عدم التجاوز على حقوق الغير.