«الجرن» و«المحدلة» يتعرضان للسرقة بلبنان

شكلا اختبارا للرجولة في الأعراس والأعياد

«الجرن» دائما يحتل جزءا من صدر البيت ويعيش معززا مكرما داخل المنزل أو على «السطيحة» و«المصطبة» («الشرق الاوسط»)
TT

لم تعد حقائب النساء الجلدية وحدها ضحية للسرقات اليومية في لبنان على أيدي ممتطي الدراجات أو النشالين المحترفين. بل تعداها السارقون إلى سرقات «مميزة» لا مال فيها ولا مجوهرات ولا أوراق رسمية، بل هي النقيض الفعلي للقول السائر «ما خف حمله وغلا ثمنه»! فقد دخلت قائمة الأهداف المرغوبة والمستهدفة الأحجار المنحوتة يدويا أو آليا، التي يبدو أنها الآن باتت «تساوي ذهبا» وصارت أعز من الأوراق الرسمية بالنسبة إلى أصحابها. الأحجار المنحوتة المقصودة هي تحديدا «المحدلة» أو (المدحلة)، و«جرن الكبة» الذي يقابل عمليا مهباج البن لكنه يستخدم لدق الكبة ذلك الطبق اللبناني المميز المصنوع من اللحم والبرغل مقليا أو مشويا أو نيئا. ويشكل كل من «المحدلة» (التي تسمى في بعض مناطق لبنان بـ«الماعوس») و«جرن الكبة» جزءا حميما من التراث اللبناني، ويمثلان جزءا ممتعا من الديكور المنزلي بعدما انتفت الحاجة العملية لهما إلا في ما ندر.

قبل الولوج إلى عالم «المحدلة» و«الجرن»، لا بد من الإشارة إلى أن كثيرين من أصحاب المنازل الحديثة يجولون الجبال والقرى بحثا عن «محدلة» مهملة أو «جرن» مركون في الحديقة أو في إحدى زوايا البيوت القديمة. وهم على أتم الاستعداد لدفع الثمن المطلوب في ما يشبه المزادات الحصرية. حتى أن بعض أصحاب تلك المنازل يكلفون البائعين المتجولين بتحقيق مبتغاهم، وهنا تبدأ السرقات. والطريف ان بعض «السارقين» يحللون هذه السرقة لأنفسهم على أساس أن هذه المسروقات لم تعد قابلة للاستعمال، وقد تكون غدت «عبئا على أصحابها»، ولا سيما في القرى النائية حيث كان «الجرن» و«المحدلة» نجمين من نجوم ساحاتها. وحتى الذين يحافظون على هذا التراث في حدائقهم باتوا يخفون هاتين «الجوهرتين»، ويلجأ البعض إلى إخفائهما داخل المنزل حماية لهما من «الأيدي الطويلة» التي باتت تخطف، ليلا ونهارا، أي «جرن» يستوي عند مدخل منزل أو أي «محدلة» مستلقية على «سطيحة» أو «مصطبة» ـ كما يسميها القرويون ـ أو في حديقة.

وإذا كان من غير المألوف تحديد سعر ثابت لأي «جرن» أو «محدلة». فإن أسعارهما خاضعة، قبل كل السلع الثمينة والنادرة، للعرض والطلب. وقد يوفق المرء في الحصول على احد هذين «الأثرين» كهدية، في حين يبدي آخر استعداده لدفع المبلغ الموصوف، خصوصا اذا كان السارق هو البائع.

وإذا انتقلنا إلى الناحية الوظيفية لهاتين القطعتين التراثيتين، نشير إلى أن «المحدلة» هي كناية عن صخر قاس ينحت بشكل اسطواني وفي مركزي دائرتيه نقرتان لإدخال طرفي مقبض حديدي معقوف بشكل U بينما يمسك المستخدم المقبض من وسطه لتسيير الحجر الأسطواني. وكانت «المحدلة» ـ أو «الماعوس» الرفيق الضروري للبيوت الطينية القديمة التي كانت سقوفها تصنع من دعامة كبيرة وطويلة من الحطب على طول الغرفة تحمل بدورها صفوفا أدق من الحطب بنسق متقاطع، وفوقها طبقة من صفوف الأخشاب الدقيقة، تكتسي بالطين (نوع من التراب الأبيض يخلط بالتبن). وكانت هذه السقوف مع جدران الحجر الطين (الكلين) العريض خير عازل ضد برد الشتاء وحرارة الصيف. وفي مطلع الخريف مع أول زخات المطر كان لا بد لأي بيت من «حدل» السقف مع الماء لتعزيز تماسك طينه وسد التفسخات والشقوق التي يكون تسبب بها قيظ الصيف وحرارة الشمس في الطين، فيحول دون «الدلف» (أي التسرب) وبذا يحفظ السقف طوال الشتاء المثلج غالبا في جبال لبنان. وفي التقاليد التراثية اللبنانية صارت عبارة «هبط» سقف بيته كناية عن الهجرة. فمن يهاجر يترك بيته لعوامل الطبيعة. ومن دون «حدل» السقف لا بد أن يتفسخ ويتشقق، فتضعف المياه «الدالفة» الخشب والحطب، وبالتالي ينهار السقف. وهكذا يتحول البيت إلى جدران تنتصب عارية كالأطلال.

ولكن بعد زوال وحتى انقراض بيوت الطين نتيجة غزو الإسمنت، فقدت «المحدلة» حظوتها فأنزلت «المحدلة» عن السطوح، وألقيت في الحدائق أو قدمت هدية لطالبيها وحتى «عشاقها».

ويقول أحد أبناء القرى المسنين إن «المحدلة» كانت تنحت باليد، وكان هناك «اختصاصيون» في هذا الفن، اما اليوم، فقد انقرضت هذه «الصناعة» وانقرض معها ناحتوها.

وإذا كانت أهمية النحت تتركز على أسطوانية «المحدلة»، فإن نحت «الجرن»، الذي كان يتم يدويا، ونادرا بواسطة المنشار الصخري، يحتاج إلى دقة أكثر ووقت أطول، ولا سيما لجهة التجويف في جزئه الأعلى، والاستدارة في القاعدة.

وكان «الجرن» دائما يحتل جزءا من صدر البيت ويعيش معززا مكرما داخل المنزل أو على «السطيحة» و«المصطبة» لأن الحاجة المنزلية له كانت أكبر وأكثر ديمومة من الحاجة إلى «المحدلة». فهو يستخدم لأشهر الوجبات اللبنانية، أي «الكبة» التي صارت جزءا من تراث لبنان وثقافته الغذائية وأغانيه الفولكلورية وأشعاره الزجلية.

وتقول سيدة قروية متقدمة في العمر كانت من «المدمنات» على «دق» الكبة بـ«الجرن» شارحة: «كنا نأتي بقطعة اللحم ونقطعها قطعا صغيرة، ونلقي فوقها الملح ووريقات النعناع، والبصل المفروم، وننكب على «دقها» في تجويف الجرن وبواسطة «مدقة» من الخشب الصلب، ويتناوب أهل الدار على هذا العمل اليدوي الشاق إذا كانت المائدة ستحفل بالمدعوين. وقبل رفع اللحم المدقوق يجري نزع العروق منه، ثم يضاف إليه قليل من البرغل، «ويدعك» باليد ثم يقدم على مائدة في قصعات مستطيلة مزينة بورق النعناع».

الطريف، أن «المحدلة» و«الجرن» كانتا في ما مضى اختبارا لـ«رجولة العريس»، فمن استطاع رفع «الجرن» أو «المحدلة» ـ وهي أثقل وزنا بالطبع ـ كان يستحق العروس. أضف إلى ذلك أن المناسبات والأعياد كانت فرصة لتباري «القبضايات» (أي شجعان القرية وأبطالها الغر) في الساحات العامة في رفع «الجرن» أو «المحدلة». ومن كان يرفع أكبر «جرن» أو أكبر «محدلة» يكتسب صيتا يطبق آفاق المنطقة، ويذكره الناس جيلا بعد جيل.