الخزاف ثامر الخفاجي يزين بالحرف العربي قرميد المدن العراقية

معرض ذكريات التركواز في غاليري آرتيكا

عراق الكنوز
TT

يحتضن غاليري آرتيكا هذه الأيام معرضا للفنان العراقي ثامر الخفاجي، الذي كسبت خزفياته سوقا رائجة في العراق منذ أواخر السبعينات، حيث احتلت بعض أعماله الساحات والكثير من البيوت والقاعات الفنية. ولعل احترافه للسيراميك وعمله الطويل مصمما لمجلات عراقية خلال السبعينات والثمانينات وفرا له خبرة واسعة ومتنوعة سمحت له بتحقيق تحكم كبير في أعمال السيراميك، التي قدمها في معرضه الجديد بغاليري آرتيكا اللندني. ولعل هذه الخبرة الطويلة كانت وراء تحكم الوظيفة التزيينية في الكثير من خزفياته الجميلة، حيث تحشية الفراغات بالنقوش المتكررة مع استخدام الخط العربي كأداة جمالية فعالة. بالمقابل هناك نقل حرفي لمعالم مدينة عراقية ظلت قائمة في الخيال وتعود إلى أزمنة قديمة. هل هي بغداد أم الكوفة أم البصرة؟

هنا نجد استخدام المقرنصات والأشكال الهندسية ضمن الزخرفة الداخلية للأجسام متكاملة مع الخطوط العربية، وبواسطة هذا التكنيك تمكن ثامر الخفاجي من استرجاع قبب المساجد الممتدة في أفق المدينة، ولتمنح قدرا من الوحدة بين أجزائها. إنها الذاكرة التي تعيد صياغة عالم ما زال قائما في المخيلة أو في طاقة الحنين التي تبحث عن تحققاتها عبر تكرار النسج نفسه.

قد لا يجد الزائر لمعرض ثامر الخفاجي تلك الوحدة في أعماله، فهناك الكثير من الأعمال التي دخلت بشكل طارئ على مشروع استرجاع المدينة العراقية التي تركها وراءه، لكنها تظل محاولة لاسترجاع خيط الحرفة التي قضى جزءا أكبر من حياته وهو يمارسها، واستخدم الفرن الذي اشتراه في أوائل السبعينات والخاص بالخزف ليمضي في طريق تحويل فن السيراميك إلى حاجة جمالية حتى في ظروف شديدة القسوة وتخلو من أي حافز إبداعي.

بعد وصوله إلى لندن قبل أقل من عامين، ومع غياب أي أداة تمكنه من استرجاع مهنة حياته، سجل ثامر الخفاجي في دورة خاصة للراشدين لتعلم الخزف، وهو المتخرج من كلية الفنون الجميلة متخصصا في هذا المجال. وكان الهدف هو التمكن من الوصول إلى فرن المدرسة للبدء بإعادة يديه إلى ما اعتادت عليه طوال أربعين عاما. غمس اليدين في الطين والعمل على تطويعه ثم صياغته بأشكال فنية، ثم القيام بتزجيجه. وحتى مع المساحة التقنية المحدودة المتوفرة له تمكن الخزاف ثامر الخفاجي أن ينتج الكثير من الصحون والجداريات المصغرة التي تمنح ألوانها بهجة وهدوءا بصريين. فلون التركواز الأزرق المائل إلى الخضرة كان عنصرا أساسيا سائدا لا تخطئه العين، وهو اللون العراقي المتكرر في الكثير من تلك القطع الخاصة بالتعاويذ وبوابات وجدران الأضرحة الفسيحة.

هناك خاصية أخرى لأعمال السيراميك المعروضة في المعرض، وهي استخدام الفنان للكثير من الرموز والجداريات القادمة من أزمنة مختلفة ليضعها جنبا إلى جنب، كاسرا بذلك حواجز العصور المختلفة والمنطلقات الفنية والدينية والفكرية المختلفة في كل حقبة عن الأخرى. فهناك جدارية يقلد فيها الخفاجي بوابة عشتار الشهيرة التي تعود إلى عصر نبوخذ نصر الذي حكم ما بين عامي 605 و563 قبل الميلاد، مع زخرفة وحروف عربية تحيل إلى فن الأرابيسك الذي ازدهر بعد القرن الثامن الميلادي في مدن إسلامية مختلفة، أبرزها بغداد. ما يجمع هذه المكونات المختلفة للجدارية هو اللون الأزرق الطاغي، إضافة إلى ما تحمله من رموز تشير إلى بقعة ظلت الحضارات تتناسل فوقها وظل الخزاف فيها مؤرخا حقيقيا لاستيطانها. ففي وادي الرافدين وعبر الجداريات العملاقة والموزاييك تمكنت تلك الحضارات من مقاومة قوى الخراب، بشرية كانت أو طبيعية، وبالتالي مقاومة قوى النسيان بفضل خزّافي وادي الرافدين القدامى. وكأن ثامر الخفاجي يعيد الطقوس نفسها سعيا للقبض على ما هو أزلي في عالم محكوم بقانون الفناء والتلاشي، عالم مدن أجداده التي اختفت عن الأفق وظلت ساكنة في ذاكرة جمعية يتمكن الفنان من استرجاعها أحيانا على صحن أو جدارية صغيرة في مدينة نائية. في صحن آخر نجد وحدة الألوان والخطوط العربية وتشكيلات المكان بهارمونيا مبهجة للعين.

ما يمنح العمل الخزفي خصوصيته هو محدودية الفنان في التعبير بواسطته عن أفكار أو ممارسة تجريبية مفتوحة لمخيلة جامحة. هنا نجد أن الفنان محكوم بمن سبقوه من أجيال قدمت ابتكارات وطرائق ورؤى، ولهذا السبب يعود نجاحه إلى المدى الذي يستطيع أن يدمج ما تحقق عبر إنجازات أصبحت جزءا مما تراه العين حولها كل يوم من أدوات استعمالية وأخرى دينية أو طقسية، وانطلاقا من هذا الكم يستطيع الخزّاف أن يضيف بصمة صغيرة لكنها قابلة لأن تنقل إلى أجيال لاحقة من الخزافين. إنها حرفة التواصل في مجال الرؤية الجمالية لما هو حولنا، وفي الوقت نفسه تحرير الأداة من طبيعتها الاستعمالية البحتة لجعلها قابلة للتأثير بصاحبها عبر تهذيب حاسة رؤيته، في وقت تظل فيه أداة خدماتية له أيضا.

يقدم هذا المعرض فرصة ممتازة لمقتني أعمال السيراميك التزيينية، فامتزاج الألوان الدافئة والباردة فوق خزفيات ثامر الخفاجي، وما تحمله من خطوط عربية تداخلت مع أساليب زخرفة ممتدة لعصور مختلفة، يمنح مناخا حميميا على جدران الغرف من دون أن تحاول إقحام أفكار ما. إنها أشبه بموسيقى هادئة تدور في خلفية مكتفية بلعب دور رائق في نفوس المتلقين من دون أن يدروا بها.

يقع غاليري آرتيكا في منطقة فولهام. لمزيد من المعلومات الاتصال بالعنوان الإلكتروني: [email protected]