«صِدام المذاقات» يفرّق شعراء العرب في الجزائر

متمردون يقاطعون «العكاظية» ويصفونها بـ«الشوربة»

إسكندر حبش («الشرق الأوسط»)
TT

قرار جزائري على أعلى مستوى يقضي بالاحتفال بـ«القدس عاصمة للثقافة العربية»، طوال السنة وفي كل الولايات الجزائرية دون استثناء. لا، بل طلب من كافة المسؤولين عن تنظيم التظاهرات الثقافية أن يقيموا احتفالاتهم على شرف زهرة المدائن، كردّ على إسرائيل التي منعت القدس من الاحتفاء بذاتها.

وإثر ذلك وُزّع كتاب في العاصمة الجزائرية فيه ما يزيد على مائة تظاهرة فنية، تستمر حتى نهاية العام. ومن بين هذه التظاهرات ما يسمى «عكاظية الجزائر». والعكاظية لقاء جامع يقام للسنة الثالثة على التوالي، حضره أكثر من ثمانين شاعرا طوال الأسبوع الماضي الماضي، حيث قرأوا أشعارهم في الحب والغزل كما في فلسطين وبغداد وبيروت. وعاش الجزائريون بحضور ضيوفهم العرب خمسة أيام شعرية، وقف خلالها الكهل إلى جانب الشاب، والمحترف مع المبتدئ، كما تناوب شعراء الفصحى والعامية على اختلاف لهجاتهم. وكانت القراءات في «قاعة الموقار» وسط العاصمة تبدأ بعد الظهر ولا تنتهي حتى المساء.

وإذ أراد المنظمون أن يكون الحفل سوق عكاظ حقيقيا، لا تفرقة فيه بين شاعر وآخر مهما علت المكانة أو هوت، لم يرُق الأمر لعدد من الشعراء الذين انتقدوا همسا أو جهرا أن يستضاف شعراء محترفون مع من وصفوهم بأنهم «لا يفقهون الشعر أو يعرفون ألِف بائه». ووصل الأمر بمجموعة صغيرة من الضيوف الشعراء لأن يقاطعوا ويرفضوا المشاركة، رغم المسافات التي قطعوها ليكونوا في الاحتفالية. وهؤلاء هم اللبنانيان شوقي بزيع وإسكندر حبش، ومعهما الفلسطيني طاهر رياض، وقد اعتكفوا بالفعل ورفضوا اعتلاء المنصة إلا إذا رتبت لهم أمسية بالمقاييس التي يعتبرونها مناسبة «لحفظ كرامة الشعر»، وذلك لأن الطريقة التي يقدم بها الشعراء في العكاظية ـ بحسب رأي شوقي بزيع ـ «هي أشبه بمولد مصري أو مجزرة شعرية. فهذا الكم من الأسماء لا يمكن أن يسمح بالإصغاء إلى الأصوات وتمييز بعضها عن بعض، كما أن حشر هذا الكم من الشعراء في مناسبة واحدة أمر غير منطقي وخارج الطقوس التي تستوجبها قراءة الشعر، التي يجب أن تكون أشبه بالتلاوة، وأن يتعاقب 26 شاعرا على المنبر في يوم واحد هو امتهان للشعر».

ويقول شوقي بزيع: «ثمة أمسية استغرقت أربع ساعات، وهذا غير إنساني. فبعد ساعة ونصف، بحسب علم النفس، لا يعود الإنسان قادرا على التركيز. ثم هل من الضروري أن تكون القصائد دامية جريحة مليئة بالجثث على النحو الذي شهدناه؟». ويعترض بزيع أيضا على مستوى الشعراء المدعوين ويقول: «هناك 55 شاعرا، كثيرون منهم لم نسمع بأسمائهم من قبل، ونحن متابعون جيدون ونواكب الإصدارات. لذلك أستغرب أن يكون عشرات شعراء الصف الأول غائبين أو مغيبين». ويتابع بزيع: «ما رأيناه ليس عكاظية وإنما شوربة، وهذا ضد الشعر. لم نعد نحتمل أن يعامل الشعراء كالقطيع وبالكيلو». ويضيف بزيع: «أتكلم بمحبة، وحرصا على أن يكون المهرجان مهرجانا بالفعل وليس تهريجا، رغم المبالغ الطائلة التي صُرفت عليه، هم يريدونني أن أتنازل عن قناعاتي وأشارك بمن حضر. ثم إنه هل من غير الصحيح أنني طالبت بأمسية منفردة؟ وما اقترحته هو أمسية يقرأ خلالها عدد محدود من الشعراء لهم وزنهم في الختام. ووعدني الوزير والشاعر عز الدين ميهوبي أن يتحدث مع المنظمين للاتفاق على هذه الصيغة قبل يوم من الختام، ولم يعد إلينا أي أحد لرد جواب على اقتراحنا، وهكذا اختتمت الاحتفالية من دوننا».

اختلفت رواية الشعراء المتمردين عن رواية الجهة المنظمة التي أكدت أنها اقترحت مخارج عدة رُفضت جميعها، وأسف مدير الديوان الوطني للثقافة والإعلام، الأخضر بن تركي، لموقف الشعراء المحتجين، وقال إنه يتفهم وجهات النظر المختلفة، والآراء قد تتباين، وتمنى لو أن المعترضين ساهموا باقتراحاتهم لتحسين الأداء في العام المقبل بدل اتخاذ مواقف سلبية، وشرح بن تركي وجهة النظر التنظيمية بالطريقة التالية: «نحن لسنا هنا في موقع إجراء اختبارات للشعراء قبل أن ندعوهم، وإنما العكاظية هي منبر يقرأ من خلاله المتمرس والمبتدئ، ويتعلم الشعراء بعضهم من بعض، وهي مناسبة يحضر فيها الرواد والشبان على السواء لتعميم الفائدة، ولا ضير في أن يكون شاعر مبرز إلى جانب من هم دونه مستوى، وهذا لن ينتقص من قدره».

على الأرجح إن الجهة المنظمة ترى في الشعر حقا لعموم الناس سواء في القراءة أو الاستماع، وهذه التظاهرة الشعرية يروي المنظمون أنها استقطبت في السنوات الماضية آلاف الحاضرين، في ما لا تجتلب أمسية شعرية تستمر ساعة ونصفا في لبنان مثلا أكثر من عشرات الحاضرين، كون الشعر قد تحول خصوصية لنخبة محدودة. واسم «العكاظية» الذي أطلق على هذا اللقاء يعكس وحده ما تختزنه ذهنية المنظمين وما يرمون إليه، وهو الأمر الذي جعل المسؤول الإعلامي للتظاهرة سمير مفتاح يتساءل عن سبب قبول الشعراء المحتجين للدعوة مع علمهم بوجود شعراء غيرهم لم يطلبوا حتى معرفة أسمائهم. أما وأنهم قد قبلوا الدعوة فكان يفترض عليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم.

ومن طرائف ما حدث أن الشاعر طاهر رياض انشق عن المتمردَين الآخرين في اللحظة الأخيرة، وذهب وحده إلى حفل الختام وقرأ شعره. وأمام هذا الاختلاف الجذري في الرؤية للشعر الذي شغل الشعراء وقسمهم وألهاهم عن فلسطين والقدس، أصدر المنظمون بيانا ختاميا معبرا جاء فيه أن لجنة استشارية ستتشكل لاختيار الضيوف والموضوعات والمحاور للدورات المقبلة، ولا بد من تحسيس المشاركين قبل حضورهم بضرورة الالتزام بنظام المشاركة والتقيد بتقاليدها. لكن الأطرف من ذلك كله أن خمسة أيام من الشعر التي هي فترة تكاد تكون شبه مستحيلة في دول المشرق العربي، بدت قصيرة للمنظمين، وأورد البيان أن تمديدا سيطرأ على فترة إقامة التظاهرة في السنة المقبلة. وهكذا ترى أنك أمام ذهنيتين مختلفتين، وهو ما تسبب في حوار الطرشان الذي دار على هامش العكاظية الجزائرية، لكنه كان بليغا وشديد الرمزية.