باعة دمشقيون يبتكرون طرقا جديدة لتحضير «عرانيس» الذرة

دخل الفولكلور السوري بطريقة عرضه ومناداة الباعة عليه

باعة «عرانيس» الذرة الدمشقيون بالطريقة الجديدة والقديمة («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر «عرانيس» الذرة، التي يطلق عليها الدمشقيون اسم «ذرة بيضاء»، كما ينادي عليها الباعة الجوالون بأصواتهم المميزة، من أكثر المواد الغذائية الموسمية انتشارا في العاصمة السورية دمشق، والمدن السورية الأخرى.

أما الأسباب فكثيرة، ومن أهمها: أنها تظهر في عدة مواسم خلال العام الواحد، ثم لأنها تباع على العربات الجوالة و«البسطات» بعدة أشكال كالعرانيس المسلوقة والمشوية. كما أنها محبوبة لمذاقها اللذيذ، ولأنها أيضا ترافق العشاق والأصدقاء في مشاويرهم، كما هو حال «البوشار»، (الذرة المنفوشة)، بحيث تشكل لهم وسيلة تسلية وهو يسيرون ببطء في الشوارع والأسواق، مثل القصاع، والحمرا، والصالحية، والحميدية، وأبو رمانة، وغيرها.. وكلها مناطق تشكل مجالا رحبا لسير العشاق والمخطوبين والأصدقاء مع صديقاتهم جيئة وذهابا، خاصة في أمسيات دمشق الربيعية والصيفية اللطيفة نوعا ما.

وهناك باعة جوالون ابتكروا خلال السنتين الأخيرتين طرقا جديدة لجذب زبائن «العرانيس»، (البليلة)، وهم يشاهَدون مع عرباتهم و«بسطاتهم» في شوارع وأسواق دمشق الشعبية والراقية بطريقة ملفتة للانتباه، فهي تختلف عن عربات «العرانيس» المسلوقة والمشوية التقليدية، وتختلف كليا بطريقة تقديمها «العرانيس» عن الطريقة التقليدية التي تعوّد عليها السوريون منذ عشرات السنين.

أحد الباعة المطوّرين لأسلوب بيع «عرانيس» الذرة، ويدعى مصطفى الأحمد - كما عرفنا على نفسه - في سوق باب توما المكتظ بالمتسوقين والمتنزهين والمتجولين، قال لـ«الشرق الأوسط»: «أقوم بسلق «عرانيس» الذرة بشكل جيد، ومن ثم أفرمها لفصل حبات الذرة المسلوقة عن الحامل (العرنوس)، وأضعها في وعاء صغير مخصّص ليتسع لحبات الذرة، وأضيف إليها نكهات عديدة، مثل الزبدة، والكاري، والأندومي، والبيتزا، والمايونيز، وحمض الليمون، والفطر ـ حسب طلب الزبون ـ ونقدمها بعد ذلك إلى الزبون ليتناولها بشكلها الجديد المدعم وهو يتمشى في السوق». وحول دخولها إلى عربات دمشق الجوّالة حديثا، قال الأحمد «تعوّدنا بيع «عرانيس» الذرة بالطريقة التقليدية، لكن بعض زملائي اكتشف الطريقة الجديدة من خلال باعة جوالين من مدينة حلب.. كانوا قد سبقونا في تقديمها، وهم جاءوا بها أيضا من تركيا. والطريقة الجديدة تحتاج إلى خبرة جيدة من البائع في تحديد نسب المنكّهات المضافة، وطريقة الإعداد، وتوازنها مع «عرنوس» الذرة». ويتابع الأحمد قائلا «لا أريد أن أقدم دعاية للطريقة الجديدة، ولكن كما تشاهد الازدحام من قبل الزبائن على عرباتنا.. فالدمشقيون الذين أحبوا الذرة المسلوقة أحبّوا أيضا طريقتنا الجديدة، خاصة أنها تقدم لهم «العرانيس» مسلوقة ولذيذة وذات فوائد غذائية إضافية، غير ما تقدمه «عرانيس» الذرة الصفراء والبيضاء». وليس بعيدا عن عربة مصطفى، التي تتوسط سوق باب توما، يقف زميله شادي صالحاني في ساحة برج الروس، عارضا بضاعته من الذرة المسلوقة، وقد قال لنا إنه ما عاد بحاجة لأن ينادى عليها في أزقة وشوارع دمشق باسم «ذرة بيضاء».. «فالطريقة الجديدة تحتاج إلى مواقف ثابتة لعربات الباعة، وفي أماكن محددة، كحال باعة الصبارة، والكستناء، والأنكينار، وغيرها.. الذين يشاهدهم الناس مع عرباتهم في أماكن دائمة، ولكن تتغير بضاعتهم المعروضة حسب الموسم وفصل السنة، في حين أن «العرانيس» تشاهد في أكثر من فصل، بسبب قطافها في أكثر من موسم واحد في العام». ويضيف شادي «ولذلك، وأسوة بباقي البائعين الثابتين، سمحت محافظة دمشق لباعة «عرانيس» الذرة بطريقتهم الجديدة بالوقوف الثابت في أماكن تحددها لهم المحافظة، مقابل دفعهم مبلغا ماليا محددا إلى المحافظة لفترة استثمارهم المكان. ومَنْ يتخلف عن الدفع؛ يُمنع من الوقوف في الشارع. وعليه، بالتالي، أن يعود إلى وضعه السابق، كبائع متجول». وفي جانب آخر من ساحة برج الروس في الطريق المؤدي إلى شارع الملك فيصل، وإلى حي العمارة في دمشق القديمة، كانت تصدح أغنية «طير وفرقع يا «بوشار» من مكبّر صوت موصول بعربة حسن الملا، الذي كان يسير ببطء، وأمامه عربته، ليتوقف قليلا منتظرا زبونا ما ليبيعه كيس «بوشار»، (الذرة المنفوشة).

يقول حسن «أعمل على هذه العربة منذ عشرين سنة، متجولا في عدد من أحياء وحارات دمشق القديمة. ونحن باعة «البوشار»، بعكس زملائنا باعة «العرانيس» المسلوقة، موجودون في كل الفصول والأيام، وخاصة في المساء والليل، لأن «البوشار» يحتاج إلى ذرة جافة، وليست طرية كحال باعة الذرة البيضاء المسلوقة. كما أن زبائننا معظمهم من الأطفال أو الشباب والشابات الأصدقاء ومن المخطوبين أو العرسان الجدد الذين يشترون كيس «بوشار» ويتناولونه وهم يتدرجون في سوق باب توما، أو في منطقة القشلة والقيمرية، التي تعتبر من أكثر مناطق المدينة القديمة إقبالا من السياح والمتنزهين.. لوجود المطاعم والكافيتريات بكثرة في تلك المناطق». ويضيف «.. و«البوشار» لا يحتاج إلى جهد كبير لإعداده كحال «العرانيس» المسلوقة، فلديّ في العربة آلة لتحميص ونفش الذرة بالزيت النباتي، وتحويلها إلى «بوشار». وهي ما زالت لها شعبية كبيرة، لطعمها اللذيذ، وسهولة تناولها، ولشكلها الأبيض الجميل». وحكاية بائعي «العرانيس» الدمشقيين لا تنتهي.. ففي امتداد شارع باب توما، وعند الانعطاف يسارا مقابل مستشفى الزهراوي باتجاه منطقة الغساني، يقف منذ سنوات طويلة بائع آخر لـ«عرانيس» الذرة، ولكن ليس بشكلها المسلوق، ولا بشكلها المطور الحديث، بل بطريقة الشيّ على النار. ويقول هذا البائع «قليلون نحن في دمشق ممن يبيعون «عرانيس» الذرة مشوية، لأسباب كثيرة.. فشي «العرانيس» يحتاج إلى وقت طويل نسبيا، ونحن مضطرون لتقديم «العرنوس» المشوي للزبون ساخنا، أي علينا أن نشويه أمام الزبون الذي قد لا ينتظر فترة الشيّ التي تستغرق خمس دقائق، في حين أن «العرانيس» المسلوقة تبقى ساخنة، حيث هناك موقد غاز تحت الوعاء الكبير الذي يحتضن «العرانيس» المسلوقة، التي عادة ما يقوم البائع بسلقها في منزله، ويأتي بها إلى مكان وجوده في السوق، ويظل يسخنها باستمرار على عربته. أما نحن، فلا نستطيع أن نشويها من قبل ونسخنها مثلا. وكذلك طريقة الشيّ تحتاج إلى أنواع محددة من «عرانيس» الذرة، حتى تُشوى بشكل جيد، وتكون قاسية نوعا ما. أما المسلوقة، فيفضلها الزبون أن تكون طرية بشكل دائم». وإذا كان باعة «عرانيس» الذرة الدمشقيون مختلفين بين بعضهم البعض في طريقة تقديم «عرانيسهم» مسلوقة، أو مشوية، أو منكهة بالطريقة الجديدة، أو على الطريقة المنفوشة «البوشار»، فإنهم يتفقون جميعا في حالة واحدة.. هي تزيين عرباتهم الثابتة والجوالة بصور لـ«عرانيس» الذرة، أو «للعرانيس» مع أوراقها الخضراء الرمحية الشكل، وبأحواض للأعشاب والأزاهير وزجاجات وضعوا فيها زهورا شامية، بشكل ملفت للانتباه. والغاية، كما أكد جميع من التقينا بهم من الباعة، هي لفت انتباه الزبون ليشتري من عرباتهم «العرانيس» أو الذرة البيضاء، ولو تحولت إلى اللون الأسود بعد شيِّها على النار، فسيظل باعة دمشق ينادون عليها في الحارات باسمها العريق، أي «ذرة بيضاء»!.