البرامج الحوارية الانتخابية في لبنان تكرس «خطاب الكراهية»

«أكشن» سياسي وصراع ديوك ولا تأثير على خيارات المقترعين

TT

أصدرت هيئة الإشراف على الحملة الانتخابية في لبنان تقريرها الثاني عن مجموعة من النتائج التي توصلت إليها بعد تحليل 32 ألف تسجيل عائد لأنشطة مرتبطة بالعمل الانتخابي والسياسي قام بها مرشحون وسياسيون وجهات حزبية وسياسية معنية بالانتخابات خلال الفترة الممتدة من 7 مايو (أيار) الماضي حتى 13 منه في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وفي الصحافة المكتوبة. وقد تمحور التقرير حول «خطاب الكراهية» المخل بأحكام المادة 68 من قانون الانتخابات النيابية التي تنص على تأمين التوازن والحياد والامتناع عن خطاب الكراهية. أما المخالفات، فقد حصلت من خلال «الوصول المباشر» وهو الفترة الزمنية أو المساحة المكانية المخصصة للمرشح والفعالية السياسية للكلام المباشر. «خطاب الكراهية» هذا هو ما يميز البرامج الحوارية التي تقتحم الشاشات اللبنانية صباحا ومساء وتحصد الحصة الأكبر من المخالفات، لتطرح السؤال حول جدواها ومدى تأثيرها على الناخبين المنقسمين وفق اصطفافات منغلقة على نفسها، والذين يهدرون أي فرصة للتمعن في خياراتهم ومصلحتهم الوطنية من خلال ما يطرحه المتنافسون على المقاعد النيابية في هذه المناظرات أو المقابلات الفردية. الأمر الذي يظهر كيفية استخدام المنابر الإعلامية لمزيد من الانقسام وليس لأي شأن آخر. ذلك أن مقدمي هذه البرامج يطلبون من ضيوفهم في الدقائق الأخيرة فقط توجيه رسالة إلى الناخبين، وذلك بعد ترك مساحة البث مفتوحة لتبادل الاتهامات والتنكيل بالخصم. هذه الصيغة انعكست في المناظرة التي دارت بين المرشحين عن المقعد الشيعي في دائرة زحلة (البقاع) الإعلامي عقاب صقر والنائب حسن يعقوب في إحدى حلقات برنامج «كلام الناس» الذي يقدمه الإعلامي مارسيل غانم على شاشة «المؤسسة اللبنانية للإرسال» (LBCI) لتسفر عن إعلان صقر أنه تعرض بعد انتهاء الحلقة لتهديدات وشتائم دفعته إلى إقامة دعوى قضائية على يعقوب الذي نفى الأمر جملة وتفصيلا واتهم صقر بالكذب.

نموذج آخر من الحدة الإعلامية المتبادلة وصل إلى حد استخدام إحدى الصحف كلمات بذيئة ونابية للرد على ما اعتبرته هجوما من المستوى ذاته شنه برنامج ساخر على المرشح الذي يملك الصحيفة. وفي حين يتوقع المشاهدون اللبنانيون مزيدا من معارك «كسر العظم» في البرامج الحوارية مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي في السابع من يونيو (حزيران) الحالي، يبقى السؤال عن مدى تأثير هذا المعارك عبر البرامج الحوارية على مصير الانتخابات. في هذا الإطار يقول الإعلامي طانيوس دعيبس لـ«الشرق الأوسط» إن «البرامج الحوارية جزء من كل. المنطلق في هذا الموضوع هو غياب تراث المناظرات في العالم العربي عموما، ولبنان تحديدا. في المناظرة الانتخابية يجب أن يطلق المرشحون مواقف من قضايا مطروحة، لأن الحوار السياسي يجب أن يبنى على فكرة البرنامج السياسي الذي يترشح أحدهم على أساسه. في المقابل، يمكن للإعلامي أن يكون مفيدا ليظهر الموقف المتعلق بشرح المرشح لبرنامجه والتعليق عليه ومناقشته. لكن الواقع في مكان آخر. من هنا نجد أن غياب هذه القاعدة يفقد الحوار الركيزة الأساسية لجدواه وموضوعيته. لتصبح بالتالي البرامج والشعارات والحملات الانتخابية كلها قائمة على فكرة تظهير عورات الخصم وليس حسنات المرشح وفريقه السياسي وبرنامجه. ذلك أن الخطاب السياسي برمته أسير معادلة: خصمي على خطأ وأنا على صواب وأسعى إلى الإصلاح. فقد أصبح الخطاب السياسي جزءا من آلية تحويل الخصم إلى شيطان رجيم. ما يعني أن الخطاب السياسي في برامج الحوار لا يتوجه لكسب أصوات الناخبين المترددين بشكل عام، بل للمحافظة على المؤيدين وإغرائهم وإقناعهم بأهمية أن يتجمهروا حوله. لكن الحاصل أن خطاب القوى السياسية كلها يعبر عن انقسام عمودي لا يتجاوز كونه تجميع جمهور كل فريق وإقناعه بأن يبقى إلى جانبه ويسلمه أدوات خطابية قادرة على مقارعة الخصوم على الأرض».

أما أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية الدكتور علي رمال فيقول: «هناك تدرج في الفائدة المرجوة من البرامج الحوارية. مهمتها أن تتوجه إلى الجمهور وأن يظهر الإعلامي مدى قدرته على إدارة مثل هذه الحوارات ليتيح للمشاهدين أكبر مساحة ممكنة للحكم على المتناظرين. لكن الحاصل أن هذه البرامج لا تتجاوز كونها مناسبة ليعلن السياسي عن نفسه بغض النظر عن مدى تأثيره على الجمهور. كما أن مدير الحوار يكتفي بحشر السياسي ليظهر أنه نجح في إرباكه وليس ليدفعه إلى إظهار حقائق أو شرح برامج».

ويضيف: «إذا بحثنا في مكونات ما يحصل على الشاشات اللبنانية بشكل عام لوجدنا أنها تفتقر إلى أرشيف صحافي. فالمرشحون بغالبيتهم لديهم تاريخهم في العمل السياسي. كما أن الإعداد للبرنامج يستوجب تحضير الأرشيف لمناقشة الضيوف من خلال مواقفهم ومحاسبتهم ليظهر جهد الإعلامي الجدي. لكننا نجد أن عدة المقدم تقتصر على ما ورد في الإعلام وفي تصريحات الخصوم وإظهار القدرة على الإحراج والسيطرة». واعتبر البرامج الحوارية الانتخابية في لبنان «فيلم أكشن سياسي بمردود ضعيف».

عن دور الإعلامي الذي يدير البرامج الحوارية يقول دعيبس: «للأسف، دور الإعلامي في هذه البرامج يقتصر على ترك المتناظرين يتحولون إلى ديوك متصارعة على مساحة الحوار لكسب أعلى نسبة مشاهدة. من يقدم البرنامج يتغذى من خصمين يستطيعان أن يشتبكا على الهواء. وإلا ما جدوى تركيب حلقة تجمع متناظرين لا قيمة سياسية فعلية تجمعهما. هدف استضافتهما ينحصر في أن الاثنين حاضران للاشتباك. وهذا الأمر لا يحقق هدف البرامج السياسية الرامية إلى مبارزة تساهم في تظهير خيارين وليس التحريض فقط. وما يحصل هو غياب النقاش السياسي الحقيقي». أما عن الجمهور، فيقول رمال: «الجمهور أسير فكرة الانتماء إلى زعيم وليس إلى برنامج. والفارق بين الاثنين كبير. الزعيم لا يخطئ، أما البرنامج فيناقش. يحتاجه جمهوره، ويكفي أن يقول ليصدقوا ويجدوا مبررات لما يرتكبه بمعزل عن أي منطق. لا يهمه من المناظرة إلا الانتشاء بزعيمه إذا استطاع السيطرة على الشاشة والمقدم والضيف المشارك. لذا لا تؤثر سلوكياته على وظيفة البرامج الحوارية القاضية بتصويب الاختيار لدى الناخبين. حتى أن فكرة الزعيم تأخذ الناخبين إلى ما هو أبعد من الاصطفاف السياسي والطائفي والمذهبي. وبالتالي لدى كل فريق زعيمه، وتحت هذا الزعيم مرشحون عاديون يلتزمون الخطوط العريضة التي يضعها من دون نقاش. وعندما يخطئ الزعيم يتولى المرشحون تبرير الخطأ وتفسيره لمنحه براءة ذمة وتبريره».

أما عن اقتصار المناظرات على الدوائر المسيحية، فيقول رمال: «السبب أن سقف الإنفاق الانتخابي إجمالا، والإعلام الانتخابي تحديدا، محدود. وبالتالي فإن التركيز الإعلامي ينصب على أمكنة تتطلب إخبار الناس بوجهات النظر بغية الحصول على الأكثرية».

وعن إطلاق التهم على الهواء، يقول رمال: «هذا النمط لم يعد يجدي. وتوجيه التهم على الهواء من دون براهين وأدلة يعكس تخلفا وليس حملات انتخابية. والتهم في هذا الإطار وجه من وجوه الفساد ولها تبعات قانونية. لكن يبدو أن هناك حالة من التسامح تسود صفوف المرشحين لخدمة تسخين المواقف». ويضيف منتقدا نوعية المناظرات الحالية: «المواطن هو الغائب الأكبر عن مناظرات أطراف الصراع.

لا أحد يتحدث عن همومه ليقتصر الحديث على السياسة. مخاطبة المواطن لا تتم بالشكل السليم والواضح. وجميع المتنافسين يتحدثون عن الإصلاح. ولا أحد يعطي وعودا بتفاصيلها، ليكتفي الجميع بالعناوين العريضة الموروثة من خمسينات القرن الماضي».