كوميديا «بير غينت» الشعرية لإبسن على مسرح «باربيكان»

عودة الابن الضال بعد فوات الأوان

الممثل جيري مالغرو في دور «غينت» في أفريقيا
TT

ظلت مسرحية «بير غينت» منذ صدورها عام 1867 عقبة كأداء أمام المخرجين لنقلها إلى خشبة المسرح، إذ ظن مؤلفها المسرحي النرويجي هنريك إبسن أنها كانت تصلح للقراءة، لا للمسرح، فهو استخدم الشعر لغة توصيل فيها. وعلى عكس أعماله اللاحقة التي استخدم فيها النثر، والتي ظلت ذات بناء متماسك، وتتناول قضايا واقعية في الحياة بأسلوب درامي محكم، نجد مسرحية «بير غينت» أقرب إلى الكوميديا منها إلى التراجيديا، وفي الوقت نفسه تتحرر من قيود الواقع ومنطقه الصارم، مثلما هو الحال في ما كتبه إبسن لاحقا.. ففيها يتداخل الواقعي بالخرافي، والمزاح الصاخب بالومضات الفلسفية، والحدث اليومي بالحلم والفنتازيا. في العرض الجديد الذي تقدمه فرقة المسرح الوطني الاسكتلندي على قاعة «الباربيكان» حاليا، أعاد المترجم والشاعر الأيرلندي كولين تيفان اقتباس المسرحية، محولا إياها من مناخ القرن التاسع عشر إلى عصرنا الحالي. وهنا، يصبح السفر بالطائرة، بدلا من السفينة، واللقاء بالإعلام التلفزيوني، بدلا من الصحافة المكتوبة، إضافة إلى تبديل اللغة المستخدمة بشكل يجعلها متماثلة مع لغة الفئات الشعبية في بريطانيا اليوم، وكأن البطل «بير غينت» في شبابه يشبه الكثير من أولئك الشباب الطامحين اليوم إلى الثروة والشهرة، حتى مع افتقادهم لأي موهبة. وما يجعله متميزا عن غيره داخل الوسط الاجتماعي، هو سعيه المستمر لتحقيق ما يدور في نفسه من رغبات، دون الأخذ بنظر الاعتبار أي اعتبارات اجتماعية أخرى، وهذا ما يجعله شخصا منبوذا من الآخرين، لكنه في الوقت نفسه موضع غيرتهم أيضا.

في المسرحية المقتبسة عن «بير غينت»، نتعقب هنا البطل، حيث يظهر شابا خلال الفصل الأول، فنتابعه في نزقه ونزواته وخصوماته مع أبناء جيله. فهو لا يكتفي بإغواء العروس إنغريد واختطافها، بل ينبذها في اليوم اللاحق ليمضي في قصفه ومجونه وأحلام يقظته بالثروة والسلطة. هنا تقحمنا المسرحية في حلم طويل يعيشه «بير غينت»، حيث يشاهد نفسه برفقة غيلان خضراء تعرف باسم «الترول»Trolls ، حسب الأساطير النرويجية، وهنا تتشكل له علاقة عاطفية بابنة الملك «باستارد»، على الرغم من بشاعتها. سيكون الحلم الطويل أشبه بطقوس عبور صوب مبدأ سيتحكم في حياة البطل المستقبلية، المتمثل في وضع المصلحة الذاتية فوق كل شيء: (اهتم أولا وأخيرا بنفسك).

لكن هذا الحلم، الذي هو صراع داخلي يعيشه البطل «غينت»، يتحول إلى حقيقة بطريقة ما.. فبعد ارتباطه بفتاة أحلامه «سولفيك»، تحضر ابنة ملك الغيلان برفقة صبي بشع، زاعمة أنه ابن «غينت»، إذ حتى مع غياب أي تماس مسبق بها، يكفي للرغبة ـ في عالم الغيلان النرويجية ـ أن تظهر، كي تتحول إلى واقع. وأمام هذا المأزق لا يجد البطل «غينت» حلا سوى الهروب إلى عالم بعيد عن قريته النرويجية، سعيا لتحقيق حلمه بأن يكون شخصا ثريا ومشهورا.

في الفصل الثاني من المسرحية، نواجه «بير غينت» بشخصية أخرى أكبر سنا، حيث يؤدي دوره الممثل المسرحي الشهير جيري مالغرو. كذلك هو أكثر إقناعا من الممثل كيث فلمينغ، الذي أدى دور «غينت» الشاب. هذا الفارق في السن يجعلنا نشعر بمرور زمن طويل منذ مغادرة البطل لبلده. وهنا، ننتقل إلى قارة أفريقيا من خلال الأضواء الساطعة، والملابس الصيفية.

وكأن «غينت» قد تمكن من تحقيق حلمه بأن يكون صادقا مع نفسه، وضمن هذا السياق عمل على تحقيق ثروة كبيرة عبر المتاجرة بالسلاح وتهريب البشر، مع قناعة عميقة بأن ما كان يقوم به هو عمل خيري محض، لكنه في سن متقدمة يفقد قناعته بقدرة الثروة على تعويضه عما تخلى عنه في قريته: حبيبته سولفيك. وعبر سلسلة نقلات كوميدية سريعة في حياته، يعود إلى قريته شيخا مهزوما ومفلسا. وهناك يظهر له شبح، عمله قبض الأرواح الخاطئة وتذويبها. ومن حواره معه يطرح الأخير فكرة معاكسة للمبدأ الذي تحكم بمسار حياة «بير غينت»: إذا أردت أن تكون صادقا مع نفسك، عليك أن تضحي بها. لكن «غينت» يصر على مقاومة الشبح الذي يرافقه بملابس بيضاء، حيث لا يراه الآخرون، لنسمع الأخير ناصحا إياه «لماذا أنت مهموم لفقدان نفسك في وقت لم تكن أنت نفسك طوال حياتك؟!».

في آخر منعطف للشبح، يلتقي «غينت» بزوجته التي تركها: سولفيك. وهي على فقدانها للبصر، ظلت تراه ببصيرتها، وتنتظر عودته، وكأن السنوات لم تمسس عاطفتها الجياشة له.

حاول مخرج المسرحية دومينيك هيل أن يخلق جوا «كرنفاليا» عبر مشاهد «غرائبية» ذات طابع احتفالي، ليعوض عن غياب الترابط بين أجزائها، والتنقل السريع من حالة إلى أخرى، من مكان إلى آخر، بواسطة الموسيقى الحية التي تتداخل في مسار المسرحية. لكن هذا العمل بالذات يظل عسيرا على التقديم على خشبة المسرح. ومع كل التحويرات التي قام بها الكاتب المسرحي كولن تيفان للنص، فإنه لم يكسر تلك القناعة الأولى التي تشكلت لدى إبسن عند إصدار «بير غينت» عام 1867 بأن مسرحيته الشعرية صالحة للقراءة أكثر من أي شيء. ومع غياب الشعر في هذا النص، وزيادة المفردات العامية الفظة بديلا عنه، شاهدنا عملا ممتعا، لكنه بعيد جدا عن مؤلفه الأصلي، ولا يترك شيئا في نفس المتلقي أكثر من متعة المتابعة الشيقة للمسرحية، بموسيقاها الحية، وديكورها البسيط، لكنه متنوع وخلاب في الوقت ذاته، وعروضها الكوريوغرافية الجذابة.