انتشار ثقافة السلوك المهذب في المشهد الثقافي

توجه تشاهده في الإعلانات التجارية والأفلام والمدونات

بول رود يستعيد شهرته مع «أحبك يا رجل». ربما كان هذا النمط من الشخصيات، وضعه في المرتبة الثانية من مشاهير الممثلين. لكنه أصبح اليوم في المقدمة مع التغيير في المفاهيم الثقافية (رويترز)
TT

في الفيلم الكوميدي الشهير «أحبك يا رجل» (آي لوف يو مان)، لعب بول رود دور بيتر، وهو شخص مرح واجتماعي، وإن كان شديد الحساسية، حيث يحمر خجلا من الإشارة إلى موضوعات حساسة تتعلق بالجسد، وينتابه الذعر من امتلاء بطنه بالغازات، ويرفض تقبيل الفتيات. على امتداد تاريخه الفني، ذاع صيت رود من خلال تجسيده شخصية الفتى المهذب الخجول. حال ظهوره في حقبة مغايرة، ربما كان هذا النمط من الشخصيات قد تسبب في الإطاحة به إلى المرتبة الثانية من مشاهير الممثلين، إلى جانب آخرين أمثال دوني أوسموند وبات سجاك. لكن اليوم، أصبح رود في المقدمة، وظهر في سلسة من الأعمال الكوميدية الرومانسية للمخرج جود أباتو، مثل «العذراء الأربعينية» (ذي فورتي أولد يير فيرجين)، علاوة على «أحبك يا رجل» الجاري عرضه حاليا، والذي تجاوزت إيراداته بدور السينما الأميركية 70 مليون دولار بقليل حتى 22 مايو (أيار). والملاحظ كذلك أن كريس ألن، المغني المهذب الذي ينتمي إلى مدينة صغيرة في أركنساس، فاز في تصويت بين الجمهور يوم الثلاثاء بلقب «معشوق أميركا» (أمريكان أيدول). ويبدو أن الشهرة الواسعة التي يحظى بها هؤلاء الرجال الذين يغلب على سلوكهم اللطف والكياسة في الوقت الحاضر، تعد مؤشرا على انتشار ثقافة السلوك المهذب واللطف في التعامل بمختلف جنبات المشهد الثقافي ـ وهو توجه بدأ في الانتشار في الإعلانات التجارية والأفلام، بل وعلى صعيد المدونات، التي عادة ما تفتقر إلى هذا السلوك.

ومن جهته، علق إريك جي. ويلسون، بروفيسور اللغة الإنجليزية بجامعة ويك فوريست، بقوله: «إننا في عصر يهيمن عليه السلوك المهذب». يذكر أن ويلسون سبق وأن ألف كتابا تحت عنوان «ضد السعادة: في تمجيد الحزن». ومع ذلك، نجد أنه حتى ويلسون لا يرى نهاية لعصر الوجوه المبتسمة، ويستشهد بإدارة أوباما كدليل على هبوب موجة جديدة من اللطف والسلوك المهذب تجتاح البلاد، حيث تعرضت الإدارة لانتقادات لإبدائها ودا مفرطا حيال بعض القادة القمعيين على مستوى العالم، علاوة على أنصار ضرورة اتباع السلوك القويم داخل الحياة السياسية مع الذين لا يزالون يتمتعون بنفوذ قوي داخل المنتديات العامة.

وأباتو، المخرج والكاتب والمنتج، الذي دارت أعماله الكوميدية الشهيرة حول «أشخاص مهذبين يتمكنون من إحراز النجاح» مما يشكل مصدر أمل للرجال المسالمين الذين تميل شخصيتهم إلى الطابع الصبياني»، حسبما أوضح ويلسون.

وأعربت غريسيان بينيت، مديرة شؤون التخطيط الاستراتيجي بمكتب شيكاغو التابع لوكالة «أوغيلفي آند مازر» الإعلانية، عن اعتقادها بأن: «هناك انجذاب باتجاه السلوك المهذب». وأضافت أن العملاء يتجنبون في الوقت الراهن الحملات الإعلانية التي تنطوي على قدر بالغ من السخرية اللاذعة التي سادت وقت ازدهار الأوضاع الاقتصادية. جدير بالذكر أن الوكالة صاغت إعلانا في الفترة الأخيرة لصالح منتج «تروفيا»، وهو مادة للتحلية، من خلال إظهار كومتين من بودرة بيضاء اللون من المفترض أنهما يوحيان بأنهما نهدين، لكن أحدهما أكثر استدارة عن الآخر. أما الفكرة التي يحملها الإعلان فكانت واضحة، وهي أن: «الاختلاف بين ما هو حقيقي وما هو زائف جلية». من وراء الإعلان، رغبت «أوغيلفي آند مازر» في نقل فكرة أن «تروفيا» مستخلص من نباتات طبيعية، تحديدا أوراق نبات استيفيا، وهو أحد الأعشاب التي تنمو في أميركا الجنوبية، وليس نتاج معامل. إلا أن المسؤولين التنفيذيين بشركة «كارغيل» المصنعة لـ«تروفيا» رأت أن الإعلان غير مناسب وربما يمثل إساءة للنساء اللائي أجرين عمليات لزراعة الصدر. وعليه، رفضوا الإعلان.

وأوضحت بينيت: «أشارك باجتماعات تسويقية مع العملاء طيلة الوقت. ودائما ما يعودون إلي مؤكدين: لا نرغب في إعلان يبدو وضيعا». وفي الوقت الراهن، بدأت بعض العلامات التجارية التي تشتهر بمحاولة التحلي بوجه باسم، بدلا من السعي لاتباع توجه محدد. على سبيل المثال، عمدت «بيبسي» على امتداد عقود عدة على تصوير نفسها باعتبارها البديل الأكثر شبابا وجاذبية لـ«كوكا كولا»، لكن في الخريف الماضي، كشفت الشركة عن شعار وصفه الكثيرون بأنه وجه يحمل ابتسامة مصطنعة. (ويعتقد البعض أن الوجه يحاكي شعار حملة أوباما الانتخابية). وبالمثل، تحولت شركة «فولكس فاغن» بعيدا عن سلسلة من الإعلانات التي تحمل قدرا كبيرا من التهكم، حيث تضم حملتها الحالية «ماكس»، وهي سيارة «بيتل» طراز عام 1964 قادرة على الحديث، وصديقتها السيارة «ميكروبوس» التي تتحدث أيضا. وهناك أيضا شركات شبكة الإنترنت التي تتمسك بتوجهات إيجابية. بموقع «تويتر»، تجري تحية كل زائر يقوم برفع صورة من رحلة أخيرة إلى مدينة كانكون بظهور رسالة جانبية تحمل عبارة: «هذه صورة رائعة!». ومن ناحيتها، تعتقد كاثرين ريان هايد، مؤلفة رواية «ادفعها لآخرين» (باي إت فورورد)، الصادرة عام 1999 والتي نجحت في إضفاء اسم رائج على فكرة فعل الخير لغرباء مع توقع أن يقوموا هم أنفسهم بالمثل مع آخرين، أن السلوك المهذب الكيس يسود في ثقافة مجتمع ما عندما يعج العالم بالمشكلات. (وكانت هذه الرواية مصدر إلهام فيلم أنتج عام 2000 بطولة كيفين سبيسي). عندما نشرت رواية هايد خلال فترة ازدهار الشركات المرتبطة بشبكة الإنترنت، لاقت الرواية بما حملته من طابع خير قوي رد فعل سلبي من قبل الكثيرين، حسبما ذكرت هايد. إلا أنه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، عندما راجت فكرة القيام بأعمال الخير، عاينت هايد تناميا بالغا في الاهتمام بالمنظمة الخيرية التي تترأسها، وكذلك المنظمات الخيرية الأخرى. وتكرر الأمر مجددا، حسبما أكدت هايد، في أعقاب تفاقم الأزمة المالية الخريف الماضي. وقالت هايد: «متى رأيتم الناس يعمدون إلى إجراء تغييرات كبرى عندما تكون الأوضاع جيدة؟ إنهم لا يفعلون ذلك قط. إنهم يتغيرون فقط عندما تسوء الأوضاع». في الواقع، لا تزال الفترة الراهنة تشهد وجود العديد من العلامات التجارية والشخصيات الشهيرة التي تتمسك بالنهج القائم على السخرية والتهكم في صيغة صورتها على الصعيد العام. ولا تزال بضع حملات إعلانية أطلقت أخيرا، كتلك الخاصة بكل من «ميلر هاي لايف» و«جيتبلو»، تعتمد على الإعلانات الساخرة، والتي يعتقد بعض المحللين أنها ستمس الإحباط الذي يشعر به الناس تجاه الأوضاع الاقتصادية الراهنة. ومقابل كل نجم من أمثال بول رود وكريس ألن يستحوذ على إعجاب الجمهور بلطفه وكياسته، هناك نجم يقتل الجمهور بلسانه الحاد السليط أمثال سيمون كوويل وبيل أوريلي. وبالنظر إلى عالم المدونات المتشابك، نجد أنه أفسح المجال هو الآخر لبعض المواطنين المهذبين الجدد، ذلك أنه بينما لا تزال المواقع المعنية بالقضايا السياسية وأخبار المشاهير ووسائل الإعلام تعج بأنماط اللغة الحادة، تشهد الساحة توسعا في عالم مناظر من المدونات يولي اهتماما خاصا بالشابات والأمهات. على سبيل المثال، OperationNice.com يعرض مقالات حول أعمال الخير ويطلب من المدونين الإدلاء بقسم أن يتحلوا بسلوك مهذب ولطيف. تأسست هذه المدونة منذ 10 شهور على يد ميليسا موريس إفون، 28 عاما، مصممة غرافيك في نيوجيرسي، والتي راودتها الفكرة بعدما قام شخص غريب بفتح باب المصعد لها. ورغبت في خلق مساحة لثقافة السلوك الخير المهذب على صعيد الانترنت. وقالت عبر رسالة بريد إلكتروني: «يعبر الناس عن آرائهم (السلبية عادة) في المدونات وأقسام الرسائل والتعليقات. من جانبي، رغبت في خلق جانب صغير يخلو من كل ذلك». حتى الآن، أدلى ما يزيد على 1100 قارئ، معظمهم من رفاقها المدونين، بقسم التمسك بالسلوك المهذب، مما سمح لهم بعرض الختم المميز لـ«أوبريشن نايس» على المدونات الخاصة بهم وصفحاتهم على موقع «فيس بوك». وربما سينافس ختم «نايس» هذا الشعار الأصلي الشهير أصفر اللون والذي يحمل وجها مبتسما وذاع صيته في مطلع السبعينيات، وهي فترة شهدت انقسامات حادة داخل المجتمع الأميركي بسبب قضايا الحرب والعنصرية وقضايا سياسية أخرى. عام 1971، تم بيع أكثر من 50 مليون شارة تحمل شكل الوجه المبتسم. وعلى امتداد سنوات فضيحة ووترغيت، ظل هذا الوجه مهيمنا على الصور الملصقة بالملابس وأقداح القهوة. ويشير بروس سكولمان، أستاذ التاريخ في جامعة بوسطن ومؤلف كتاب «السبعينيات: التحول الكبير في الثقافة والمجتمع والسياسة الأميركية»: «إن الرجال الذين سوقوا لها تخيلوها كخليفة لإشارة السلام». وأضاف في رسالة إلكترونية أن شعار الوجه المبتسم مثل «رسالة الوسطية في صورة تجارية لطيفة وخالية من أي طابع سياسي». ويصعب القول ما إذا كانت الشخصيات الشهيرة «اللطيفة» والودودة اليوم تنعكس أو تؤثر على حياة الأفراد في الحياة الواقعية. فلا يوجد مؤشر علمي للسلوك المهذب، لكن الملاحظ أن استخدام كلمة «غبي» في ما ينشر في المدونات تراجع إلى النصف في الشهور الستة الماضية، وذلك بحسب ما أوردته «بلوغ بلس» التي تتابع البيانات المنشورة على الإنترنت.

ويبدو أن بعض الشركات التجارية بدأت في التراجع عن مواقفها السابقة، حيث قال غوش أوزيرسكي، المحرر المختص بشؤون المطاعم في موقع Citysearch.com إنه اكتشف تحولا كبيرا في فنادق مانهاتن الفخمة التي كانت تعامل مرتاديها من غير المشاهير بنوع من اللامبالاة وقال: «يمكنك الآن رؤية رؤساء الطهاة يعملون في القاعة بأكملها بدلا من عدد محدد من موائد الشخصيات الهامة وتقوم النادلات بشكر الجميع خلال مغادرتهم بدلا من معاملتهم وكأنهم أشخاص عديمو القيمة».

وكان نادي «ذا سانتوس بارتي هاوس» الليلي في شارع لافايتي النادي الأشهر في الوقت الحالي بسبب سياسة الباب المفتوح وصداقته الصريحة التي تعبر عنها اللافتات الموجودة به التي كتب عليها «شكرا على قدومك للاحتفال هنا». «أنت تحمل وجها جميلا!».

وتقول ليندا كابلن ثيلر، مؤلفة كتاب «قوة الشخصية المهذبة: كيف يمكنك غزو عالم الأعمال التجارية باللطف»، إن الأبحاث تشير إلى أن الأفراد الذين يمكن تصنيفهم كأشخاص مهذبين يكون لديهم ضغط دم منخفض ومعدل حالات طلاق منخفض»، كما أن الأطباء الذين يقضون دقائق إضافية في الحديث مع مرضاهم لا يكونون موضع شكوى سوء المعاملة. وتقول كابلن ثاير، التي تشغل منصب المدير التنفيذي لمجموعة «كابلن ثالر»، وكالة إعلانية تضم 175 موظفا: «الشركات التي تحظى بأعلى معدل لاحتفاظها بعامليها هي تلك الشركات التي يسود داخلها أجواء كبيرة من السلوك المهذب، وعندما يفقد الأفراد وظائفهم يكون لديك الخيار في اختيار الشخص، وسوف تختار الشخص الذي يمتدح رابطة عنقك، فالسلوك المهذب يصبح عنصر منافسة». ويشير البروفيسور ويلسون من جامعة ويك فورست إلى أن ذلك قد لا يعجب الجميع، فربما يشعر البعض باحتقار تجاه الشخص الباسم، ويرون أن هذا الأدب المفرط «يفرز تواضعا شديدا، وربما خطيرا».

* خدمة «نيويورك تايمز»