كفرذبيان.. قرية الغزلان وحاضنة الثلج والتراث

درب الجبل اللبناني

تلسياج عيون السيمان في موسم التزلج («الشرق الاوسط»)
TT

بلدة كفرذبيان اللبنانية، الواقعة في قضاء كسروان من محافظة جبل لبنان، أشبه بالمارد الأشيب، قدماه تكادان تلامسان مستوى البحر، ورأسه مكلل بالثلج، وهذا ما تفسره الرقعة الجغرافية العائدة لهذه البلدة، والتي تكاد تكون من أكبر البلدات اللبنانية جغرافيا، إذ تبدأ من علو 600 متر عن سطح البحر وتنتهي إلى علو 2600 متر. ويشبه البعض هذه البلدة الجميلة بالأم التي طغت أسماء أبنائها عليها، إذ إن قلة من اللبنانيين ـ فكيف بالحري غير اللبنانيين ـ يعرفون أن «فقرا» مثلا المشهورة بمركز تزلجها، وقصورها الفخمة وآثارها الرائعة هي ابنة كفرذبيان وفلذة كبدها. أكثر من ذلك، حتى الأمس القريب، كان اللبنانيون يعتبرون أن مركز «عيون السيمان» السياحي هو تابع لمصيف «فاريا» الكسرواني، فيما الحقيقة هي أنه الابن الثاني لكفرذبيان. ولهذا الالتباس قصة يرويها لـ«الشرق الاوسط» عضو لجنة الإعلام والسياحة والرياضة في مجلس بلدية البلدة وليد قيصر بعينو، فيقول: «عندما تأسست «شركة المزار» في عيون السيمان في عام 1957 أطلق عليها اسم «شركة سياحة وإشتاء فاريا المزار»، ومنذ ذلك الحين درج الناس على الربط بين عيون السيمان وبلدة فاريا، علما بأن عيون السيمان تقع في خراج كفرذبيان، وقد بقينا نطالب باستعادة حقنا حتى تمكنا قبل سنتين من إقناع أصحاب شركة المزار من رفع اسم فاريا عن الشركة فتأمن لنا ما أردنا وما سعينا إليه».

وإذ تنعم كفرذبيان اليوم بالسياحة الداخلية والخارجية، يمكن التوجه نحوها من كل أنحاء لبنان. والطريق الأسهل والأقصر تبدأ من ساحل كسروان مرورا ببلدتي عجلتون وفيطرون، ومنها باتجاه كفرذبيان عبر تكوينات طبيعية تمجد الخالق وتسلب الألباب. وبالنسبة إلى قاطني منطقة المتن، يمكن سلوك طريق انطلياس ـ بكفيا ـ بتغرين (بلدة النائب ميشال المر) فكفرذبيان عبر «وادي الجماجم» المثير للرهبة. حتى القاطنون في البقاع أو الداخل اللبناني يمكنهم الوصول إلى كفرذبيان عبر القمم المكللة بالأبيض الناصع أشهر عدة من السنة والمنعشة النسائم صيفا.

وتشكل كفرذبيان وفقرا وعيون السيمان جزءا من «درب الجبل اللبناني» الذي يمتد بطول يزيد على 350 كيلومترا من بلدة القبيات شمالا إلى بلدة مرجعيون جنوبا، والمخصص للمشي في الطرق القديمة الخالية من الزفت والتي تتيح التعرف إلى جمال الطبيعة اللبنانية والتراث اللبناني عبر مشروع «ضيافة» الذي يؤمن للزائرين والسياح إقامات في منازل تراثية وفنادق صغيرة بما تستلزمه من مأكولات لبنانية وتستدعيه من غوص في الحياة القروية اللبنانية.

وترتاح «قرية الغزلان» (كما تعني كلمة كفرذبيان باللغة السريانية) كغزال على سفح رابية. فإن قصدت إليها من البقاع طالعتك «عيون السيمان» بشاليهاتها الرائعة المغروزة في حقول الثلج ومطاعمها ونواديها، ثم «فقرا» بقصورها وحدائقها ومطاعمها وآثارها الجليلة الشاهدة على دورها وحضارتها. وإن قصدت إليها من المتن، فلا بد من أن تمر بجارتها «قناة باكيش» (مركز تزلج آخر في المتن)، وان قصدت إليها من ساحل كسروان، فلا بد من أن تأخذك شهقة الجبال وعمق الوديان، ولا تلبث أن تأخذك الدهشة عندما ترمي ناظريك على بيوتها الحجرية الجميلة، وعلى بساتينها التي تزخر بكل ما لذ وطاب.

فعلى الصعيد التاريخي يقول بعينو: «كانت كفرذبيان مركز مقاطعة الجرد في عصر المتصرفية، وكانت أول بلدة كسروانية أسست مجلسا بلديا في عام 1900. ويبلغ تعداد سكانها نحو 12 ألف نسمة ويتوزعون على عائلات عقيقي، وسلامة، وزغيب، ومهنا، وبطيش، وصقر، وبعينو، وحداد، ومخلوف، ومبارك، والخازن، وبعلبكي».

وكما كان الالتباس في بنوة عيون السيمان، حصل التباس مماثل في بنوة نبعي اللبن والعسل، إذ درج البعض على اعتبار هذين النبعين تابعين لبلدة فاريا لكونهما يقعان فوقها مباشرة، في حين أن ملكية النبعين تعود إلى كفرذبيان حصرا، علما بأن نبع اللبن هو الذي يغذي سد شبروح الذي نفذ العام الماضي في أعالي كسروان.

ولا يمكن الحديث عن كفرذبيان من دون التعرف إلى آثارها العريقة وروائعها الطبيعية. فعلى مسافة قريبة من نبعي اللبن والعسل ينتصب موقع فقرا الأثري، الذي بني في العصر الروماني على الطراز الكورنثي، وهو كناية عن مجمع ديني أعيد بناؤه إلى عصور مختلفة وفق ثلاثة نصوص قديمة العهد. فالبعض نسب بناءه إلى الملك سليمان في القرن التاسع قبل الميلاد، ثم إلى عهد البطالسة في القرن الثاني قبل الميلاد، والبعض الآخر لم يحسم تاريخ بنائه. وتفيد كتابتان يونانيتان محفورتان، الأولى على عتبة الباب الرئيسي لأحد أبراج الموقع الرئيسية، والثانية على حجر الزاوية يمينا، أن البناء قد تم في عام 43، فيما حفرت مجموعة نقوش يونانية على معبد اترغاتيس، الذي يشكل جزءا من الموقع، تحدد تاريخ بنائه في عام 1949.

ويتكون الموقع من برج كبير كان سقفه مخروطيا على هيئة الأهرام، ويقال إن أهالي المنطقة قدموا هذا البناء إلى الإمبراطور الروماني تيبيريوس كلوديوس عام 43 كمركز للمراقبة وخزنة لحفظ ثروات المعابد الدينية. وفي مقابل البرج يقع مذبح كبير يستوحي الفن الفرعوني. وفي الموقع أيضا «المزار» الذي بني على قاعدة مربعة يعلوها رواق من 12 عمودا يحيط بحجر كبير يحمل سقفا مكورا على شكل قبة. ويضم الموقع كذلك المعبد الكبير القائم على هندسة سامية قديمة أسيء ترميمها أخيرا، ومعبد اترغاتيس الذي يمكن أن يكون كنيسة قديمة أو هيكلا وثنيا.

أما الروائع الطبيعية فيمثلها «جسر الحجر» «الذي يتحدي عبقريات المهندسين القدماء والمحدثين حتى ليبدو أن يد الخالق حفرته بعوامل الطبيعة عبر الأزمان»، على حد قول أحد مثقفي البلدة. والجسر هو كناية عن قوس طبيعي يرتفع على مجرى مياه نبع اللبن نحو 58 مترا بفتحة تبلغ 38 مترا، وبطول 65 مترا، وعرض 215 مترا. وتسير مياه النبع منحدرة كشلال في الوادي السحيق. ولا تقل أهمية كفرذبيان السياحية عن أهميتها الأثرية والتراثية. ففيها، كما يقول بعينو، مركزان للتزلج، أحدهما يعود إنشاؤه إلى عام 1957، ويقع في عيون السيمان. والثاني تأسس في عام 2000 وأطلق عليه اسم المنطقة أي «الوردي». وهذان المركزان هما مدينة سياحية بالكامل، وعلى الطراز الحديث، بمطاعمها الفخمة، وفنادقها المميزة، ومبارياتها الرياضية الشتوية التي باتت نقطة جذب للسياح من أنحاء العالم المحلي والإقليمي والدولي، وكرنفالها السنوي الذي يحمل اسم «مهرجان السياحة والتراث».

وتأكيدا لالتصاق ابن القرية بأرضه، حول أهالي كفرذبيان بلدتهم إلى حدائق غناء وبساتين تحفل بالتفاح (الستاركن والغولدن والنوع الجديد الذي يعرف باسم سكارليت) والدراق والكرز والعنب والخوخ، فضلا عن الخضار على أنواعها. ولم يغفل السكان غابة الأرز التي تقع على كتف البلدة، والتي دشنها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عندما كان قائدا للجيش، ولكنها تعرضت في ما بعد لانتهاك الماشية، الأمر الذي دفع المجلس البلدي إلى إحياء الغابة التي تحولت مقصدا للزائرين والسياح.

وفي ضوء ما تزخر به البلدة من فواكه وخضار، تلاقى أهالي البلدة، رجالا ونساء، على تكوين تعاونية «الأطايب» التي تهتم بتصنيع المنتجات الزراعية وتعمل على تسويقها في الداخل والخارج بدعم من الوكالة الأميركية للتنمية.

يبقى أن نشير إلى أن كل هذه الثروات التي تحتضنها كفرذبيان جعلت من «نادي فقرا»، الممتد على مساحة نحو مليون متر مربع، مرتع استجمام لكبار الشخصيات اللبنانية والعربية، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة المغفور له رفيق الحريري، ورئيس الجمهورية السابق اميل لحود، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، والوزير السابق غسان سلامة، والنائب الحالي فريد الخازن، وسواهم. وقد ساهم تصنيف هذه المنطقة في رفع أسعارها العقارية التي تراوحت بين 600 و800 دولار للمتر المربع داخل النادي، وقرب مركز عيون السيمان، وخارج هذين الإطارين يقدر سعر المتر المربع بما يتراوح بين 300 و400 دولار.