تاريخ بيروت ترويه شوارعها

أسماء تعود إلى «بسطة خضار» أو نزاعات قبائل وعائلات

شارع «الحمرا» الشهير في غرب بيروت، سمي كذلك بعد نزاع ـ كما يقال ـ بين عائلة سنية وأخرى درزية («الشرق الأوسط»)
TT

يروي كل شارع في بيروت قصة تندرج في التاريخ اللبناني، لتصبح ذاكرة، تكمن في التسمية التي لم يعد يعرفها سوى المعمرين في المنطقة، فينقلوها إلى أولادهم، كما تلقوها من أهلهم ومحيطهم، أو يسعى إليها الفضولي ليتولى بدوره الكشف عنها وترويجها.

فشارع «الحمرا» الشهير في غرب بيروت، بدأت حكايته الخاصة في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ويشير الأستاذ الجامعي الدكتور حسان حلاق إلى تعدد المصادر ويقول: «ورد في بعض المراجع أن التسمية تعود إلى نزاع نشب بين سكان المنطقة من قبيلة بني تلحوق (الدروز)، وأفراد من بني الحمرا (المسلمين) الذين كانوا يترددون على بيروت لبيع محاصيلهم الزراعية. ونتيجة هذا النزاع اضطر بنو تلحوق إلى النزوح عن مساكنهم في رأس بيروت، المنطقة التي كانت تعرف في عهدهم باسم (جرن الدب)، والتحقوا بالجبل تاركين أراضيهم ومنازلهم لبني الحمرا، الذين استقروا في المنطقة فنسبت إليهم منذ ذلك الحين، لتصبح (كرم الحمرا) وتسحب من التداول تسمية (جرن الدب) إلى غير رجعة». وتفيد مصادر أخرى أن شارع «الحمرا» نسب إلى بني الحمرا من دون نزاع أو ما شابه. لكن آل الحمرا البقاعيين توافدوا إليه، واستقروا فيه، ومنهم تشعبت عائلات بيروتية، مثل «آل العيتاني، آل اللبان، آل شاتيلا وغيرهم..».

رواية ثالثة تنسب التسمية إلى أمراء بني الحمراء الذين تولوا المنطقة في القرن الخامس عشر، وأهمهم الأمير وإمام المسجد محمد الحمراء، الذي كان أول من وصل إلى منطقة رأس بيروت للدفاع عنها، واتخذ «زاوية» في هذه المنطقة مكانا له، وهي الزاوية ذاتها التي أقيم فيها مقهى «سيتي كافيه» حاليا. كما يحكى أنه دفن في ذلك المكان، التي تحول آنذاك مقاما، إلا أن مقامه اندثر مع الأيام. وتبسط بعض المراجع أصل التسمية لتذكر أنها تعود إلى أرض المنطقة حمراء اللون التي تلهب أرجل سالكيها في الصيف وتغرقهم بالوحول في الشتاء.

وإذا عدنا إلى السنوات الأولى، التي رافقت الحرب العالمية الأولى 1914ـ1918، نجد أن «كرم الحمرا» أو «مزرعة الحمرا» كان قاطنوها يهتمون بأشجار المقساس لأنهم يستخرجون من ثمارها مادة الصمغ ليصنعوا منه الدبق لالتقاط العصافير، وكانوا يعتبرون الأمر تجارة مربحة، إذ كانوا يبيعون العصافير الملتقطة بليرتين عثمانيتين ذهبيتين. أما الشارع الموازي لشارع «الحمرا» باتجاه البحر، فقد حمل اسمه من دانيال بلس الذي كان من المساهمين الأوائل في بناء حرم الجامعة الأميركية، أواخر القرن التاسع عشر، وجمع التبرعات اللازمة لتنفيذ هذا المشروع كما، تولى رئاستها لتصبح من أهم الجامعات وأرقاها في لبنان، ويصبح «بلس» من الشوارع الأكثر زحمة ونبضا في بيروت. ومن «بلس» ننتقل إلى «مونو»، والاسم يعود إلى أحد أهم الأساتذة الفرنسيين الذين توالوا على إدارة الجامعة اليسوعية، فأراد أهل الحي في شرق بيروت تكريمه فأطلقوا اسمه على الشارع المعروف اليوم بشارع «مونو». «بسطات الخضار» كان لها «أيضا» نصيبها من التسميات، فحي «البسطة» الممتد من وسط العاصمة صعودا لجهة الغرب، والذي تجاوزت شهرته حدود بيروت، وشهد أحداثا سياسية ووطنية جعلته من المعالم الرئيسية في هذه المدينة، تعود تسميته إلى كثرة «بسطات الخضار» فيه. ويقول أحد المعمرين في المنطقة لـ«الشرق الاوسط»: «عرفت المحلة بثلاثة بساتين تملكها عائلات البشناتي والشعار والشدياق. نزل فيها أحد الأشخاص ويدعى رضوان، وتزوج فتاة من عائلة البشناتي، بعد حين قام ابنه محمود بوضع طاولة خشبية (بسطة) في موقع مخفر (البسطة الفوقا) حاليا، لبيع الخضروات. وصار موقعه نقطة التقاء، وتكاثر زبائن هذه (البسطة) التي تقع في الجهة العليا من المحلة. وقد شجع نجاح محمود رضوان، شخصا من آل فرشوخ، يسكن في الجهة السفلى من المحلة، على تقليده، فوضع (بسطة للخضار) أمام منزله، فصار الناس يقولون (البسطة الفوقا ـ العليا) و(البسطة التحتا ـ السفلى). ومنذ ذلك الوقت عرفت المنطقة بهاتين التسميتين». أما الإشارة «الرسمية» الأولى للتسميتين فقد وردت عام 1882 في صحيفة «المصباح» التي ذكرت مرور عدة عربات في طريق «البسطة»، كذلك ورد ذكرها في صحيفة «ثمرات الفنون» سنة 1895 التي كتب فيها عن تدشين جامع «البسطة الفوقا».

وتميزت «محلة البسطة» بفتوة شبابها وحماسهم الوطني، والنخوة، والحمية، والحماسة العربية، والغيرة الإسلامية. ومن أخبارها التي رواها أحد وجهائها الراحل محمد الشعار عن عشرينات القرن الماضي، أن أحد قبضايات المزرعة القريبة من المحلة (الأسطة باولي)، وهو من أصل يوناني، كان يسعى الى التحرش بقبضايات «البسطة» كي يذيع صيته، فأخذ يمر في المحلة ويفتعل المشاكل. وكانت والدته تنصحه دوما بالابتعاد عن «البسطة». لكنه لم يرتدع فلحقه أحد القبضايات وقتله. وعندما عرفت والدته أنشدت عبارات صارت مشهورة بين أهالي بيروت عموما و«البسطة» خصوصا، وهي «شو بدك بأولاد البسطة ما قلتلك يا أسطة، إللي ما بيقتلك بالسكين، بيقتلك بالبلطة». وكان «الشعار» قد أشار إلى أن «القبضاي في ذلك الحين كان فعلا قبضايا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، على عكس ما نراه اليوم (في ثمانينات القرن الماضي)، فالأزعر يظن نفسه قبضايا لأنه يحمل سلاحا فرديا». أما الطريق الجديدة، فيروي قصتها عمر المصري ويقول: «إن المنطقة أخذت هذا الاسم عندما شقت الحكومة طريقا جديدة تصل ما بين غابة الصنوبر أي (حرش) بيروت في ضاحيتها الجنوبية، وكورنيش المزرعة وصولا إلى (الروشة)، فأطلق المواطنون على المنطقة اسم الطريق الجديدة. وفيها حي اسمه (حي الطمليس) ويعود تاريخه إلى الحقبة العثمانية، وعرف بهذا الاسم بسبب ضيق أحيائه والتصاق مبانيه، ما يمنع دخول ضوء الشمس. وكلمة (طمليس) هي كلمة في العامية اللبنانية، تعني العجز عن الرؤية بوضوح».

في مقابل منطقة الطريق الجديدة يقع شارع «بربور»، ويفصلها عنه كورنيش المزرعة. وهو سمي كذلك تيمنا بالدكتور بربور وهو أول ساكني هذه المنطقة ومن أهم الأطباء مطلع القرن الماضي.

وقد تكفي صخرة عملاقة قبالة الشاطئ لتعطي المنطقة اسمها، كما هي الحال مع صخرة «الروشة». كذلك تحفل العاصمة بأسماء الدول والعواصم، ومنها شارع «أوستراليا» في «الروشة»، أو شارع الخرطوم في منطقة الطريق الجديدة. ويعود السبب إلى تبادل الأسماء بين الدول العربية، وذلك لأهداف سياسية أو سياحية. كما أن بعض الشوارع تحمل أسماء «جنرالات» فرنسيين تناوبوا على حكم لبنان في فترة الانتداب، ومنها شارع «غورو». إلا أن المفارقة تسود التسميات بين رسمية وشعبية، فبعض الشوارع تغلب تسميتها الشعبية على تسميتها الواردة في السجلات الرسمية، كما هو الحال مع شارع «ماري اده» قرب منطقة الصنائع، والمعروف بـ«الموصللي» نسبة إلى بائع زيت مشهور.