المهرجانات الشعبية في البلقان.. شواء وتجارة وصراع ثيران

«التفاريتش» فرصة لتعارف الشباب والفتيات بغرض الزواج.. والرقص الشعبي

جانب من حضور مباريات صراع الثيران («الشرق الأوسط»)
TT

تقام المهرجانات الشعبية الصيفية على طول وعرض منطقة البلقان (75 مليون نسمة)، والتي تبلغ مساحتها 728000 كيلومتر مربع ويحيط بها الماء من عدة جهات، نهرا الدانوب والسافا من الشمال، ومن الجنوب بحر مرمرة وبحر إيجه ومضيق الدردنيل، ومن الشرق البحر الأسود ومضيق البسفور، ومن الغرب البحر الأدرياتيكي والبحر الأيوني. وتشهد هذه المهرجانات إقبالا كبيرا من السكان ومن مختلف الأعمار، ولا سيما سكان الأرياف. وتعتبر المهرجانات الشعبية في البلقان، أو «تفاريتش»، فرصة لتعارف الشباب والفتيات بغرض الزواج. وتقام فيها حفلات الرقص الشعبي التي يطلق عليها «إغرانكا»، وهي لوحات راقصة يشارك فيها من يرغب في ذلك من الحضور، وما عليه سوى دخول الحلقة حيث يضع الجميع أيدي بعضهم في أيدي بعض. والتفاريتش فرصة لترويج البضائع والتجارة بكل أصنافها، كما تقام فيها مطاعم الشواء، وتوفر فيها الألعاب والأراجيح للأطفال، وتتحول مساحات كبيرة منها إلى أسواق، كما تنظم فيها مباريات صراع الثيران، التي يطلق عليها «كوريدا».

وقال صاحب مشواة في الهواء الطلق تعمل ببطاريات السيارات، حيث تقوم بلف الخرفان فوق الجمر لإنضاج اللحم، ويدعى علم الدين غانياس (30 سنة)، لـ«الشرق الأوسط»: «أشارك في تفاريتش وكوريدا، فهذه المهرجانات الشعبية تشهد إقبالا كبيرا، وهي تقاليد متوارثة منذ مئات السنين». وتابع: «كنت مقاتلا في أثناء الحرب، ومنذ عدة سنوات أعيش من هذا العمل، وأتنقل من مهرجان إلى آخر»، وكشف علم الدين عن رواج كبير لمطاعم الشواء في الهواء الطلق، قائلا: «بعت الآن لحوم 30 خروفا و400 دجاجة». وعن أكثر المهرجانات التي تشهد إقبالا قياسيا ذكر علم الدين أن «مهرجانات سليانوفيتش، وستوب، من أكثر المهرجانات جلبا للناس. ففي سليانوفيتش على سبيل المثال يقبل على المهرجان أكثر من نصف مليون نسمة». وللتفاريتش أبعاد اجتماعية، حيث يلتقي الأصدقاء في هذه المناسبات، بعد انقطاع أخبار بعضهم عن بعض لمدد طويلة. وقال صالح تشاكيتش (60 سنة): «آتي للتفاريتش للتسوق ولمرافقة بعض أحفادي الذين يحبون الأراجيح، ولقاء الأصدقاء، فبعضهم لا أراهم طوال العام سوى في التفاريتش»، وعما إذا كان سيشارك في اللوحات الراقصة أجاب: «كنت أفعل ذلك عندما كنت صغيرا، والآن أترك المجال للشباب»، مشيرا إلى حفيديه محمد 7 سنوات، ومحمد 10 سنوات. وأعرب عن ارتياحه لنزول المطر قبل إقامة التفاريتش، قائلا: «هذه المرة لا يوجد غبار، فنزول المطر بحمد الله منع ثوران الغبار الذي غالبا ما يكون سمة التفاريتش». وفي المهرجانات الشعبية، التي هي أسواق بطعم المهرجانات، أو مهرجانات بنكهة الأسواق، يباع الـ«آيس كريم» وكل أنواع الحلوى، وقال أديس (40 سنة): «لدي 3 أطفال، ومنذ 20 عاما وأنا أمارس هذا العمل في التفاريتش، ولدي محل لبيع الـ(آيس كريم) في بوصوفاتش».

وفي التفاريتش يمكن للأطفال الصغار تأجير خيول قصيرة القامة، يمكنهم امتطاؤها وقيادتها داخل أجنحة الأسواق المقامة.

ومن الناحية الأمنية تشهد مهرجانات «التفاريتش» حضورا مكثفا للشرطة، لوجود ناس من مختلف الأعراق مشاركة، وقد رفض بعض التجار والمتسوقين الكشف عن أسمائهم. وقال باكر ساميتش (59 سنة) من أصيلي إقليم بنيالوكا البوسني: «أبيع اللحوم المشوية على الجمر بطريقة اللف على الجمر، وقد أتيت اليوم متأخرا، لذلك لم أوفق في اختيار المكان المناسب لعرض ما لدي»، وعن تأثير الأزمة الاقتصادية على المهرجانات وحركة التسوق قال: «لا شك أن هناك تأثيرا، ولكن الناس لا يظهرون تأثرهم بالأزمة، فهم يعلمون سلفا ماذا سيشترون وأين سينفقون نقودهم».

ولا تغيب الخضراوات والفواكه عن أي تفاريتش، وقال البقال حارث بيرقطاروفيتش: «أنا راض عن المبيعات، فالناس وإن كانوا يشترون اللحوم المشوية فإنهم يضطرون إلى إعداد السلطة بأنفسهم، وشراء ذلك من السوق، والبعض يتزود بالغلال والخضراوات من هنا لأن أسعارها أقل من الأماكن الأخرى». لكنه أشار إلى أن الدخان والمشروبات الأكثر مبيعا.

وأشد ما يثير الانتباه وتشد إليه الرحال في هذه المهرجانات، مباريات صراع الثيران، فأغلب من يأتي إلى هذه المهرجانات يأتون خصيصا لمشاهدة صراع الثيران المثيرة، التي لها شعبية كبيرة في منطقة البلقان لا تقل عما هو حاصل في إسبانيا، ولكن مع فارق واضح وهو أن صراع الثيران في البلقان يجري بين فصيلة واحدة.

وعندما يقترب موعد المباريات تتزاحم الجموع حول السياج الذي يفصل الحلبة، أو بالأحرى الميدان (لاتساعه)، عن المشاهدين حيث تتسمر أقدامهم في أماكنها وتخفق قلوبهم وتشخص أعينهم، وهم يمنون النفوس بفوز ثورهم المفضل، وبعضهم يجلب معه مظلات للوقاية من الشمس، وكراسي لمشاهدة المباريات كاملة، حيث لا توجد مدرجات في هذه الميادين الشعبية، ولذلك يظل الآلاف واقفين لعدة ساعات دون شعور بالكلل أو الملل. وترتفع صيحات الإعجاب عندما يفوز أحد الثورين حيث تبلغ النشوة والإثارة بالبعض مداها.

وقال مدير مهرجان التفاريتش، آدم مصطفيتش (57 سنة): «منذ 30 عاما وأنا أشرف على تنظيم هذه المهرجانات، أما صراع الثيران هذا اليوم فيشارك فيه 16 ثورا، أي 8 مقابلات». وعن تكلفة المهرجانات ذكر أن اليوم الواحد يكلف 25 ألف يورو. وامتنع عن ذكر الأرباح، معللا ذلك بأن الهدف هو المحافظة على التقاليد على حد تعبيره. ويطلق على الثيران أسماء لاعبي كرة القدم، مثل رونالدو، رونالدينهو، وزيدان، وروبينيو، وريبيري، وتيري، وغير ذلك.

وعن أسباب إطلاق أسماء لاعبي كرة القدم على الثيران وليس أبطال الملاكمة والكونغ فو والكاراتيه والتايكوندو، أجاب أرباب رياضة صراع الثيران بأن «أرجل الحيوانات تلعب دورا كبيرا في حسم المعركة، ولذلك يتم اختيار أسماء لاعبي كرة القدم وليس الرياضات الأخرى». وقال أحد بائعي الكراسي، شريف داديتش (48 سنة): «أعيش من بيع هذه الكراسي التي يمكن ثنيها وحملها بقبضة اليد الواحدة، وهي مكونة من أرجل خشبية ومقاعد جلدية»، ويبلغ سعر الكرسي الواحد 5 يوروات. وعن أفضل المهرجانات قال: «تفاريتش، جوراجدة». أما ابنه يلمين (15 سنة) فذكر أنه باع بمفرده قبيل المباراة 15 كرسيا. وقال أسد باتكوفيتش القادم من فيتز (54 سنة): «لدي مزرعة بها 200 رأس من البقر، وأشارك اليوم في هذه المباريات، محافظة على التقاليد الأسرية وحبا لهذه الرياضة». وعن عدد المرات التي شارك فيها في «كوريدا» أفاد بأنه شارك في «كوريدا» أكثر من 40 مرة، ويؤكد الخبراء في مباريات صراع الثيران أن «حكام المباريات يوقفون أي مباراة عندما يشعرون بوجود خطر يهدد أحد الثورين المتصارعين، كما يوجد أطباء بيطريون يقيمون الوضع الصحي للثيران المتصارعة في أثناء وبعد المعركة».

وقد روجت في الفترة الأخيرة أنباء عن احتمال منع صراع الثيران في البلقان، بعد شكاوى منظمات الدفاع عن الحيوان، لكن ملاك الثيران يؤكدون بأنه «ليس هناك من هو أرحم بالثيران من أصحابها». وقال أحد حكام مباريات صراع الثيران، منصور بابولاك (48 سنة): «لا يمكن منع التقاليد، وليس فيها أي ضرر على الثيران، وإن حدث فهو لا يتجاوز ما يحصل بين الملاكمين في حلبات الملاكمة، وهو أقل خطرا من صراع الثيران في إسبانيا، حيث تغرز السهام في ظهر الثور، ونحن لا نرضى هذا لثيراننا». وأوضح أن: «أغلب المعارك بين الثيران تنتهي بهروب الثور المهزوم من أمام خصمه، ويتوقف الثور الفائز عندئذ عن ملاحقته». وعن أشد المعارك إثارة وأشدها رسوخا في ذاكرته من خلال خبرته الطويلة في التحكيم قال: «كان ذلك في شيوفاسكي، حيث استمرت معركة بين ثورين 3 ساعات و5 دقائق، وانتهت بالتعادل، وبعدها لم يتقابلا، وقد فازا في المباريات التالية كما انهزما». وعن أسوأ ما شاهده من مباريات أكد أن «أسوأ ما يمكن مشاهدته وفق تقاليدنا، حكاما وملاكا، رؤية الدم يسيل من أحد الثورين أو كليهما، وعندها نوقف المعركة».