مخرجة تعالج أطفال الشوارع من خلال مسرح العرائس

صنعوا الدمى بأنفسهم وأدوا أدوارهم بمهارة شديدة

المخرجة مع مجموعة من أطفال العمل ومحاولة الإمساك بضوء هارب
TT

«أطفال الشوارع موهوبون ومبدعون، بل هم أكثر ذكاء من الأطفال العاديين»، قالت المخرجة الشابة رانيا رفعت، وكانت تتحدث عن عملها المسرحي «الماريونت» «إحنا فين وانتو فين؟»، الذي دعمته الهيئة القبطية الإنجيلية في القاهرة، وقالت إن معظم القائمين عليه من أطفال الشوارع. لم تكن تمزح أو تبالغ. لكن عند دخولك كواليس مسرح مدرسة «كلية البنات» بالعبّاسية (القاهرة) تجد عددا من الصبية يقومون بالعمل منهمكين، فمنهم من يحرك الستارة، ومنهم من يمسك خيوط دمية ويحركها بمهارة، ومنهم من يجلس وعلى وجهه ابتسامة رضا مستمعا إلى صوته المسجَّل لشخصية أو أكثر من شخصيات العرض.. العمل الفني تمكن من استثمار واكتشاف كل هذه الطاقات.

تقول رفعت: «في الأيام الأولى لقيت صعوبة شديدة لأن كثيرين من الأولاد تسرّبوا من العمل، ومن لم يتسرّبوا كنت أوزّع عليهم العمل، فأحدهم يلوّن والآخر يلصق وغيره يجهّز الجلود وغيره يقوم بالصنفرة. وحين أشعر أنهم بدأوا يملّون الأمر ـ وهذا يحدث سريعا ـ كنت أبدل الأدوار بينهم».

كان من الواضح أن هذا العمل «الدرامي» ذو أثر كبير على الأولاد، والدراما بالفعل بكل أشكالها ـ قديما وحديثا ـ هي وسيلة من وسائل التأثير القوي على النفس البشرية. واستعدت من ذاكرة التراث «الشاعر» في السامر الشعبي حين يحكي قصص «أبو زيد الهلالي» و«عنترة بن شداد»، والناس من حوله يتأثرون بشدة، فمنهم من يتخيل نفسه أبو زيد الذكي الحكيم، ومن يرى نفسه عنترة القوي الشجاع، ومن يعمل على تعديل حياته لتتناسب مع «بطولته» التي يتخيلها من خلال حكايات السامر الشعبي.

لكن السؤال المهم كان: كيف يمكن أن تلعب الدراما دورها القديم «المطهِّر»، وكعلاج نفسي لهؤلاء الأطفال المشتتين اجتماعيا وإنسانيا، وكيف ستكون أحوالهم بعدما ينتهي العرض؟! الدكتور سيد خطّاب المدرس بالمعهد العالي للفنون المسرحية بأكاديمية الفنون يوضح الأمر بقوله: «الدراما العلاجية تُستخدم منذ سنوات مع كل الشرائح العمرية، وحسب الفئة المستهدَفة، يتحدد شكل كتابة الدراما وسبل تنمية المهارات من خلال مشاركة الفئة في العمل».

ويوضح خطّاب أنه في مسرح العرائس يتوافر مفهومان هما: «المسخ والإحياء، لأن صنع الدمية مسخ للحقيقة، وتحويرها إلى دمية لا تنطق، وكذلك تحريك الدمية وإنطاقها هو بمثابة إحياء لها، وكل هذا يجعل الطفل المشارك في العمل يتفاعل مع هذه الدمية، ذلك التفاعل الذي افتقده في مجتمعه، ومن هنا يبدأ العلاج بالدراما».

أما عن القدرات العقلية لأطفال الشوارع، فتقول المخرجة رانيا رفعت: «يتميز طفل الشارع بالذكاء الشديد وخفة الظل، وهو أذكى بكثير من الطفل العادي، لأنه اكتسب خبرة كبيرة من حياته في الشارع، ومن محاولاته المستمرة والناجحة في كثير من الأحيان للهروب من السلطة. كما يتميز بالقدرة على الارتجال السريع. أما التعلُّم المتعمّد فهو بطيء، لأنه لا يكون عن خبرة حقيقية اكتسبها».

ونظرا إلى كل هذه القدرات، يؤكد خطّاب أن طفل الشارع «هو إفراز خلل مجتمعي قد يؤدي إلى كارثة، ولكن يمكننا تحاشيها من خلال الدراما العلاجية».

وتناول العمل المسرحي «إحنا فين وانتو فين؟»، الذي كتبته مخرجته رانيا رفعت، قصة واحد من أولاد الشوارع كان أيضا من المشاركين في التجربة، واسمه علي بزّازة (10 أعوام)، يقول عنه زملاؤه: «سميناه علي بزّازة لأنه كان دائما يضع إصبعه في فمه مثل البزّازة». وعلي بزّازة طفل له خمسة عشر أخا وأختا، طرده أبوه ـ الذي يتعاطى المخدرات ـ وزوجة أبيه ـ التي تقف ضده دائما من أجل أبنائها ـ لأنه تأخر في إعطاء أبيه أجره الأسبوعي في ورشة النجارة التي كان يعمل بها، فقابل في الطريق طفلا آخر أغواه بالبقاء في الشارع الواسع المليء بالمغامرات بعيدا عن ظلم الآباء وتسلطهم، حيث يستطيع أن يكسب من حياة الشارع عشرات الجنيهات يوميا. وبالفعل يبقى علي في الشارع ليخوض تجربة الدخول إلى عالم أولاد الشوارع، فتكشف دراما العرض كثيرا من أسرار هذا العالم، فالطفل ليدخل هذا العالم يجب أن «يِشِدّ كُلّة»، ثم تقام له «حفلة»، يقوم فيها أحد «الكبار» بوضع علامته المميزة بسكينه على وجه الطفل، ثم يقوم باغتصابه، ليبقى تابعا له، ومن يرَه بعد ذلك يعلم أنه يتبع هذا الكبير. ثم يتعرض علي وزملاؤه لـ«كبسة» من الشرطة يُقبض فيها عليهم، وينتهي العرض بحوار جدلي بين الضابط وأولاد الشوارع تتبعه أغنية من هؤلاء الأطفال إلى الضابط والمجتمع كله.

هذا هو ملخص عمل الماريونت الدرامي الذي يستغرق نحو أربعين دقيقة، والذي كان ذا تأثير واضح وقوي على نفوس الأطفال الذين يمثل قصة كل منهم تقريبا، إذ تقول رفعت: «لقد طلبوا مني بشكل واضح أن نكوِّن معا فريق عمل، ويحصلوا على راتب شهري، وأعلمهم القراءة والكتابة». والمفارقة اللافتة أن «علي بزّازة» الحقيقي ألقي القبض عليه في أثناء العمل ولم يكمل قصته مع فريق العمل.

وعن تنامي التجربة، تقول رفعت: «كان الأولاد في البداية يرتجلون اسكتشات كوميدية جدا بعرائس القفاز (الجوانتي)، وكان دائما فيها ضابط، ودائما تنتهي بموت الضابط أو إصابته». وبعد البدء في صناعة عرائس الماريونت (تستغرق صناعة العروسة اثنتي عشرة ساعة) «كانوا يتعبون بسرعة، ربما بعد عشر دقائق من العمل، ولكن بعد الانتهاء من أول عروسة كانوا في قمة السعادة، وكانوا يعنّفون كل من يوشك أن يؤذيها، وبعد تسرب أغلبهم وجدتهم يعودون هم وغيرهم راغبين في المشاركة». وعن أشد الصعوبات التي واجهتها تقول رفعت: «لقد قمنا بصناعة عروسة الضابط أربع مرات، لأنهم كانوا يحطمونها دائما، ومن يحطمها كان يقول: يستاهل، مش ظابط؟!»، كما أنهم «كان معظمهم يؤخذ إلى قسم الشرطة بعد عشرة أيام أو أسبوعين، فكان تعبي معهم يضيع هدرا. ولأنهم جميعا أميون لا يستطيعون القراءة، فقد كنت أقوم بتحفيظ كل منهم دوره عند التسجيل، أربع جمل بعد أربع أخرى، وكان هذا يستغرق وقتا طويلا ويستهلك طاقة غير عادية».

ويقول الدكتور خطّاب إن مثل هذه التجربة تواجه صعوبتين كبيرتين؛ تقنية ومجتمعية: «تتمثل الأولى في تحفيز المهارة والموهبة عند طفل الشارع، والثانية في تقبّل طفل الشارع للانخراط في هذا المجتمع والعمل مع أفراد منه»، وإذا استطعنا التغلب على هاتين العقبتين فإننا «نعطيهم طاقة العمل الجماعي ونُشعرهم بقيمتهم في المجتمع»، ويوضح خطّاب أن هذه التجربة ليست الأولى من نوعها، فقد «قامت بعض فرق الهواة بعمل مسرحي يعبّر عن المعاقين، وأبطاله من المعاقين، ولكنها كانت تجربة مسرح حي لا مسرح عرائس»، وفي أواخر القرن الماضي «قدم الفنان علي الحجار مسرحية (أولاد الشوارع) التي تناولت حياة طفل الشارع». ويشير خطّاب إلى أن «مثل هذا العمل لا يقدِّم لطفل الشارع الحل لكل مشكلاته، ولكنه فقط يعلمه أنه من الممكن أن ينخرط في المجتمع، فليس علينا أن نعطيه السمكة، ولكننا نعلمه الصيد، نجعله شخصا اجتماعيا، نخرجه من دائرة الإجرام إلى قيمة الحياة والجمال».

وعند سؤالها عن تقبُّل هؤلاء الأطفال للآخر، قالت رفعت: «أعتقد أن تقبّلهم سيكون سريعا في مثل هذا العمل، فقد وجدتهم يقدّرون الآخر ويقيمونه جيدا قبل التعامل معه، ويضعون حدودا للتعامل مع هذا الآخر لا يتخطونها، كما أنهم لا يكابرون عند الخطأ، بل يعترفون به ويعتذرون عنه، ويقيّم بعضهم بعضا، ويعنفون المخطئ فيهم».

وقد اتفقت رفعت مع خطاب على أن «المسرح أكثر تأثيرا على نفسية طفل الشارع المشارك فيه من غيره من الفنون الدرامية كالسينما، لأن في المسرح مواجهة مباشرة مع الجمهور، كما يمكن تغيير فريق العمل باستمرار بخلاف السينما، ومن ثم تشمل التجربة عددا متزايدا من الأطفال».