«الحلو مر».. الحاضر الدائم على موائد رمضان بالسودان

في اسمه مزايا وصفات كثيرة لبلده

امرأة تبيع رقائق «الحلو مر» («الشرق الأوسط»)
TT

حيثما كنت في السودان هذه الأيام سوف تجذبك رائحة معبقة مميزة تأتيك مع كل نسمة منذ ساعات الصباح الأولى وحتى ساعة متأخرة من الليل، إنها رائحة «الحلو مر».

هذه الأيام من العام، وقبل كل رمضان، تنشط الأسر السودانية وتنشغل أيما انشغال بتحضير وتجهيز وعاء مشروب تقليدي خاص يفضله السودانيون أثناء شهر رمضان يسمونه «الحلو مر»، إنه شراب يحبونه ويقدرونه لاعتقادهم أنه الأنجع في فك عطش الصائم، وإروائه طوال ساعات صيامه. وفي بعض البقاع والأصقاع لا يكتفي المواطنون السودانيون بشراب منقوع «الحلو مر»، بل يأكلون رقائقه عند الإفطار.

«الحلو مر» نتاج مزيج من الذرة، تغسل ثم تنشر حتى تزرّع. وما أن تبدأ طريقها إلى النمو حتى يصار إلى قلعها وفصل ما تشابك منها. ثم تترك لتجف، ثم تجمع ويبعث بها إلى الطواحين لطحنها دقيقا ناعما. وعندما تتحول الحصيلة إلى دقيق تشمر ربة المنزل عن ساعديها تأهبا لبدء عملية كيميائية دقيقة، غالبا ما تستعين عليها بخبيرات، سواء بالإيجار أو بعون مجاني من كبيرات سيدات الأسرة وعدد من الجارات، في نفير سوداني اجتماعي مميز، على أساس «اليوم عندي.. وبعد يومين عندك، وهكذا».

تخلط النسوة ذلك الدقيق بالماء ليصبح عجينا غليظا نوعا، ويتركنه ليتخمر طبيعيا، فيصبح خفيفا ويكتسب طعما خاصا. وبعد إضافة مقادير محسوبة من أنواع مختارة من البهارات، من بينها الكزبرة، والشمار، والقرنفل، والعرديب (التمر الهندي)، والزنجبيل، يباشرن طهو المكونات وإنضاجها في «عواسة» (وعاء كبير) بصب كمية بسيطة ملء «كوز» (أي إبريق صغير) أو ما شابه، تفرش سريعا على هيئة رقائق وطرقات سميكة فوق صاج ساخن.

ومع الحرص على الاستمرارية حتى اكتمال المهمة الشاقة ليوم أو يومين، أو أكثر، حسب كمية العجين، مع ملاحظة أن هذه الطبقات تحتاج بعد النضج لشيء من التهوية قبل التخزين. وهنا لا بد من الإشارة إلى حرص النسوة السودانيات على ممارسة اجتماعية محببة تقوم على توزيع كميات على الجيران والأحباب والمحتاجين «تهنئة» بحلول الشهر الكريم.

وكما هو واضح فإن عملية إعداد «الحلو مر»، التي تمر بأكثر من مرحلة عمل معقدة متعددة المراحل، تحتاج إلى خبرة تصقلها الممارسة. وهذه الخبرة تنتقل من جيل لآخر باهتمام وحرص كبيرين كي لا تندثر. في حين تتميز عملية «العِواسة»، أو صب المزيج في الوعاء الكبير لينضج، بكونها مهارة وفنا راقيا يحتاجان إلى صبر وقوة تحمل لمواجهة النار. وهو ما لا تتمكن منه وتقدر عليه إلا أعداد محدودة من النساء.

ولكن، على العكس تماما، طريقة تحويل «الحلو مر» إلى مشروب طريقة سهلة جدا لدرجة أنها توكل عادة للصغيرات عندما يرغبن في مد يد العون لأمهاتهن قبل موعد الإفطار. إذ لا تتعدى غمر بعض من تلك الرقائق بمقدار من الماء، يصفى بعدها المحلول، ويحلى بكمية معتبرة من السكر ليقدم باردا، فيروي الصائم لدى إفطاره ويمتعه.

يفضل السودانيون «الحلو مر» على غيره من المشروبات التي تشاركه مائدة إفطار رمضان التي يتسيدها. ومع الطبق السوداني المعروف «العصيدة والملاح» يمثل «الحلو مر» ثنائيا رئيسيا لا يمكن الاستغناء عنه، طالما كانت مائدة إفطار رمضان سودانية مائة في المائة. لذلك فإن الأسر من داخل السودان تحرص على أن ترسل كميات من «الحلو مر» لمغتربيها حيثما كانوا، في مشارق الأرض ومغاربها، من أستراليا إلى أميركا وكندا، كما في العالم العربي وأوروبا وجنوب أفريقيا. وتعتبر الطرود من «الحلو مر» بندا أساسيا في استعدادات ربة المنزل السودانية المهاجرة سواء كانت سيدة تقليدية متقدمة في السن، أم شابة «مودرن» في مقتبل العمر.

ولكن ماذا عن مصدر اسم «حلو مر»؟ هل لكونه مرا وهو رقائق ثم يحلى بعد أن يترك في الماء ويصفى ويضاف إليه السكر؟ أم لأن عملية إعداده وتحضيره «مرة» صعبة لكثرة دواعيها ومتطلباتها، لا سيما في مواجهة النار قبل أن يحلى بعد اكتمال تلك المرحلة ويزداد حلاوة بسبب سرعة تحويله لمشروب لذيذ؟

ثمة من يقول إنه «حلو» و«مر»، تماما كالسودان «الحلو» بخيره وأراضيه الخصبة الشاسعة الممتدة، المزروعة والبور، ذات الخير المدفون، و«المر» بما يعانيه في كثير من أصقاعه من جوع وفقر وعناء.

«حلو» بمياهه العذبة الوفيرة، وبأنهاره التي تجري من أقصاه إلى أقصاه، و«مر» لما تعانيه كثير من أطرافه، بل حتى مدنه، من العطش والجفاف والعناء من أجل الحصول على ماء نظيف جارٍ من دون انقطاع.

«حلو» عندما يفتخر السودانيون ببلدهم كبوتقة ينصهر فيها المسلم والمسيحي واللاديني، العربي والأفريقي، الهدندوي، والجلعي، والشلكاوي، والمسيري، والزاندي، والبشاقري والدينكاوي، والشايقي، والفوراوي، والحمري، والنوباوي... و«مر»، بل يمسي طاردا كقطعة من جهنم عندما يسوده العنف والشقاق والقتال بسبب الجنس والدين والقبلية والاختلاف حول الثروة والموقع والمنصب.