بريطانيا تودع هاري باتش.. آخر جنودها في الحرب العالمية الأولى

بالقرب من نهاية حياته تحول إلى أحد الأصوات القوية الداعية للسلام

هاري باتش، آخر جنود بريطانيا الذين شهدوا الحرب العالمية توفي منذ أسبوعين عن 111 عاما (رويترز)
TT

دقت أجراس الكاتدرائية طيلة ساعة كاملة، معلنة ليس وفاة الرجل فحسب، وإنما نهاية حقبة بأكملها. كان هاري باتش في الـ111 من عمره عندما توفي منذ أسبوعين، ودفن جثمانه الخميس بعد مراسم تأبين في مدينة ويلز الواقعة جنوب غربي إنجلترا. بيد أن عمره الطويل لم يكن سبب احتشاد مئات المعزين في الشوارع وتجمعهم داخل الكاتدرائية في ظل يوم مطير، وإنما جاء ذلك انطلاقا من رغبتهم في تكريم آخر الجنود البريطانيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وآخر رجل في هذه البلاد من شهود العيان على تلك الحرب الدموية التي غيرت وجه أوروبا ومسار القرن العشرين إلى الأبد. الطريف أن باتش، وهو شخصية متواضعة، لم يكن اضطلاعه بهذا الدور بمحض اختياره، بل ولم يكن باستطاعته، بينما كان مجندا في الـ18 من عمره في صفوف المشاة، التكهن بأن جنازته بعد 93 عاما ستحضرها وفود غفيرة من أشخاص لم تسبق له رؤيتهم قط، يضمون دبلوماسيين وأرستقراطيين وجنودا ومدنيين وفدوا إلى ويلز لإبداء تقديرهم لباتش. في هذا السياق، أكد جيم روس، صديق باتش، أمام جموع المعزين داخل كاتدرائية ويلز، إضافة إلى أعداد يتعذر حصرها احتشدت خارج منزله وفي مكتبه، لمشاهدة مراسم التأبين عبر شاشات التلفزيون، أن باتش «كان رمزا وطنيا، وفي الوقت ذاته، شخصا عاديا». وقام جنود من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا بمرافقة نعش باتش الملفوف في العلم البريطاني حتى باب الكنيسة، في إشارة إلى تقدير الجهود التي بذلها من أجل تحقيق السلام والمصالحة في سنواته الأخيرة. خلال مراسم التأبين، وقف جنود في الزي الرسمي يمسحون دموعهم، بينما امتلأت صدورهم بميداليات كانت ستتلألأ تحت أشعة الشمس حال سطوعها. لكن اليوم كان مطيرا وغطت السحب السماء. جاءت المشاعر الجياشة على الصعيد الوطني التي أثارتها وفاة باتش لتذكر الجميع، بعد مرور قرابة قرن، أن الحرب العالمية الأولى لم تزل حية في أذهان البريطانيين على نحو لا تضاهيه أي حرب أخرى شهدها العالم منذ ذلك الحين. على خلاف الحال مع الولايات المتحدة، التي يتمثل «جيلها الأعظم» في أولئك الذين خاضوا الحرب العالمية الثانية، فإنه بالنسبة للبريطانيين ـ وعدد لا حصر له من الأوروبيين الآخرين ـ يخص هذا الشرف الجنود الذين تحملوا البؤس وشقاء مقتل الملايين في حقول فلاندرز أثناء الحرب العالمية الأولى. تعتبر الأعداد الهائلة للضحايا جزءا من السبب وراء فقدان بريطانيا والمناطق التي خضعت لهيمنتها الاستعمارية 900.000 جندي، وهو عدد شديد الضخامة لم يترك أسرة إلا ومسها. وإذا توجهت إلى أصغر قرى بريطانيا، الاحتمال الأكبر أنك ستجد نصبا تذكاريا في الكنيسة المحلية أو على المروج الخضراء المحيطة بالقرية يمجد تضحيات شباب من أبنائها سقطوا خلال الحرب العالمية الأولى. في هذا الصدد، علقت مونيكا وليامز (64 عاما)، بقولها: «جيل بأكمله محي من الوجود». يذكر أن اثنين من أشقاء جدها الأكبر قتلا في الحرب. علاوة على ذلك، ساعدت الحرب في تخفيف حدة الفروق الاجتماعية داخل المجتمع البريطاني في العصر الإدواردي، حيث اختلط أبناء النبلاء والعامة في أتون الصفوف الأمامية من الحرب، ولم يميز وابل الرصاص المتدفق من البنادق الآلية بين الضباط من أصحاب الرتب الرفيعة وجنود المشاة. الملاحظ أن ميراث الحرب بقي حيا في جوانب متنوعة، وأحيانا غير محتملة، من الثقافة البريطانية. على سبيل المثال، جاءت بعض أفضل الأشعار في تاريخ الأدب البريطاني في القرن العشرين على يد جنود شعراء أمثال ويلفريد أوين وسيغفريد ساسون. ولا يزال تلاميذ المدارس البريطانية يدرسون أشعارهم حتى اليوم. أخيرا، أثنى النقاد على كتاب «الإحياء» الصادر في ثلاثة أجزاء للكاتبة بات باركر، وتتناول خلاله الأضرار النفسية التي تمخضت عنها الحرب العالمية الأولى. يذكر أن مؤلفي المسلسل التاريخي الكوميدي «ذا بلاك أدر»، الذي جرى عرضه في الثمانينات، وقام ببطولته روان أتكنسون، كتبوا أحداث الجزء الأخير منه حول فترة الحرب العالمية الأولى. وانتهى المسلسل نهاية مثيرة للصدمة ما زال يجري الحديث عنها حتى اليوم، حيث تلقى الشخصيات الرئيسية حتفها. من ناحية أخرى، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حضر باتش واثنان آخران من الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، هما هنري ألينغهام وويليام ستون، الاحتفال السنوي بيوم الهدنة في لندن. إلا أنه في 10 يناير (كانون الثاني) توفي ستون، وفي 18 يوليو (تموز) توفي ألينغهام. وبعد أسبوع واحد، لحق بهما باتش. وعليه، ستصبح احتفالات يوم الهدنة هذا العام هي الأولى من نوعها التي تجري دون مشاركة أي من جنود «الحرب الكبرى».

من جهته، شاهد مات كوبلي (33 عاما)، جنازة ألينغهام على شاشات التلفزيون، وقطع عهدا على نفسه المشاركة في جنازة باتش. صباح الخميس، فاستقل هو وصديقه كيفان مانوارنغ حافلة من مدينة باث في رحلة تستغرق 80 دقيقة حتى ويلز. وأعرب كوبلي، الذي حمل معه نسخة من مذكرات باتش وتحمل عنوان «المقاتل البريطاني الأخير» (ذا لاست فايتنغ تومي)، عن اعتقاده بأن «الحرب العالمية الأولى تختلف عن أي حرب أخرى وقعت قبلها.. إن صور الرعب التي نشأنا عليها تنتمي كلها إلى تلك الفترة. لقد أحدثت هذه الحرب هزة عنيفة بكل شيء. ولم يمر أي شخص بتجربة مماثلة من قبل، ولن يمر بمثلها فيما بعد». كانت أجراس الكنيسة تعلو لدى وصول كوبلي ومانوارنغ هناك. المثير أن باتش، الذي طال به الأمد حتى وفاة زوجتين ونجليه، لم يتحدث قط عن ذكرياته خلال الحرب حتى أكمل العام الـ100 من عمره، عندما وافق على مضض على إجراء سلسلة من المقابلات معه. واعترف باتش أن ذكريات مقتل ثلاثة من رفاقه جراء سقوط قذيفة ألمانية عليهم ظلت تطارده لفترة طويلة. خلال هذا الحادث الذي وقع في سبتمبر (أيلول) 1917، أصيب باتش بسبب قذيفة شظايا متناثرة. ونجح الطبيب في استخراج الشظية من فخذه دون مخدر، بينما عمد أربعة من رفاقه إلى تقييده عن الحركة. وشارك باتش في «معركة باشنديل» في بلجيكا، وبحلول نهاية المعركة التي استمرت ثلاثة شهور ونصف الشهر، كان أكثر من نصف مليون جندي من كلا الجانبين قد لقوا حتفهم. وخرج البريطانيون من هذه المعركة «منتصرين» من خلال تقدمهم خمسة أميال. بالقرب من نهاية حياته الممتدة، كسر باتش صمته، وتحول إلى أحد الأصوات القوية الداعية للسلام وأبدى فخره بكونه واحدا من جنود بريطانيا في «الحرب الكبرى». (من جهتهم، نوه مسؤولو وزارة الدفاع أن رجلا بريطاني المولد ممن خدموا في صفوف الأسطول الملكي البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى لا يزال على قيد الحياة في أستراليا). ومع ذلك، كانت تأتي لحظات على باتش يتمنى خلالها ترك الماضي حيث هو. وفي ذات مرة، على سبيل المثال: «كما قلت من قبل، الحرب العالمية الأولى باتت في ذمة التاريخ. إنها ليست بالنبأ الجديد. انسوا أمرها». لكن من غير المحتمل أن يتحقق ذلك.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»