الدول المتقدمة لم تعد تسير نحو الشيخوخة

دراسات حديثة تفنّد أفكاراً راسخة.. وجدل حول علاقة الانتعاش الاقتصادي بكثرة الإنجاب

TT

على امتداد عقود، شهد متوسط أعداد الأطفال التي تنجبها المرأة في العديد من الدول المتقدمة تراجعا بطيئا. وفي الوقت الذي أثار هذا التوجه سعادة بعض الخبراء المعنيين بالبيئة ممن تساورهم الشكوك حيال الزيادة السكانية المفرطة، فإنه أشعل قلقا متناميا في صفوف صانعي السياسات والمعنيين بالشؤون الديموغرافية والعلماء الاجتماعيين حيال تأثير مثل هذا التوجه على المدى الطويل على المجتمعات مع تقدم أعمار أبنائها في العمر وشروعها، في بعض الأحيان، في الانكماش.

بيد أن أبحاثا جديدة صدرت في الوقت الحاضر سلطت الضوء على بصيص من الأمل حيال فكرة أن الرخاء الاقتصادي ربما لا يرتبط حتما بتراجع معدلات الخصوبة. وتوصل التحليل الجديد إلى أنه في الكثير من الدول، بمجرد أن تحقق أمة ما مستوى متقدما على نحو خاص من التنمية، يبدو أن النساء يعاودن إنجاب مزيد من الأطفال مجدداً. وعلق هانز بيتر كولر، بروفيسور علم الاجتماع بجامعة بنسلفانيا، الذي ساعد في إجراء البحث، بقوله، «إن الأمر أشبه بوميض ضوء في نهاية نفق مظلم بالنسبة لبعض الدول التي كان سكانها في طريقهم نحو الانكماش».

وأثنى باحثون آخرون على التحليل الجديد باعتباره بحثا مميزا من المحتمل أن يتمخض عن تداعيات سياسية واجتماعية واسعة النطاق. وقال شريباد تولجابوركار، بورفيسور الدراسات الإحيائية والسكانية بجامعة ستانفورد، الذي كتب تعليقا أرفق بالبحث التحليلي الجديد الصادر في دورية «نيتشر» العلمية، «هذا أمر بالغ الأهمية، لقد ظل هذا النقاش دائرا لبعض الوقت حول معدلات الخصوبة بالغة الضآلة في بعض من تلك الدول. وشكل الأمر ورطة كلاسيكية على صعيد رسم السياسات أثارت حيرة وقلق الكثيرين».

وقد ركزت المخاوف على «معدلات الخصوبة» الوطنية، التي يجري النظر إليها على نحو عام باعتبارها أمرا مرغوبا من قبل المعنيين بالشؤون الديموغرافية وعلماء الاجتماع عندما تدور حول مستويات «معدل الإحلال»، عندما يكون متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم كل امرأة اثنين. ويعني ذلك أن الدولة تنتج عددا كافيا من الشباب ليحلوا مكان العمال المتقدمين في العمر من دون أن يرتفع النمو السكاني على نحو بالغ يؤثر في الموارد الوطنية. على امتداد القرن العشرين، انكمش معدل الخصوبة بوجه عام مع ارتفاع مستويات الرخاء الاقتصادي، وفي بعض الأحيان، جاء أدنى بكثير عن معدل الإحلال داخل بعض أكثر دول العالم تقدما، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. وأوضح كولر أنه «كان هناك إجماع بأنه في الوقت الذي تحقق الدول التنمية، وتزداد ثراء وتوفر مستوى أرقى من التعليم لأبنائها، لن يتحرك معدل الخصوبة سوى باتجاه واحد، هو الانخفاض. ويثير هذا الأمر مخاوف واسعة النطاق. فمثلا، لن يبقى من الممكن دعم أنظمة مثل أنظمة المعاشات، ويمكن أن يحدث انكماش سريع في قوة العمل مما يسبب تراجعا اقتصاديا وفقدانا في القدرة التنافسية، وربما فقدان القدرة على الابتكار». الملاحظ أن بعض الدول رفضت الدعوات لإعادة تعزيز معدلات المواليد بها عبر فتح أبواب الهجرة، مثل السويد وإيطاليا، وبالتالي ساورها قلق بالغ حيال معدلات الخصوبة شديدة الانخفاض لديها، ما دفعها لعرض حوافز مالية على النساء لينجبن مزيداً من الأطفال، من دون أن تحرز هذه السياسة نجاحا يذكر.

ولاستكشاف ما إذا كانت التنمية الاقتصادية مرتبطة بالضرورة بانكماش معدلات الخصوبة، عمد كولر ورفاقه إلى فحص التوجهات العامة للخصوبة بين عامي 1975 و2005 في 37 دولة من بين أكثر دول العالم تقدما. واعتمدوا في ذلك على معيار طورته الأمم المتحدة يعرف باسم «مؤشر التنمية البشرية»، الذي يجمع البيانات المرتبطة بالدخول مع المعايير الأخرى المتعلقة بالتقدم، مثل متوسط العمر ومستويات التعليم. وتوصل الباحثون إلى أن معدلات الخصوبة لم تبد ميلا للانكماش في حال ارتفاع مستوى «مؤشر التنمية البشرية» لدولة ما. إلا أنه بالنسبة لـ18 من إجمالي 26 دولة عبرت حاجز مستوى معينا من التنمية ـ حيث مؤشر التنمية البشرية بلغ 9 على الأقل ـ بدأت معدلات الخصوبة في الصعود مجددا. والملاحظ أن توقيت تحول التوجه العام في الخصوبة تباين من دولة لأخرى. فداخل الولايات المتحدة، مثلا، حدث التحول في منتصف السبعينات، وفي النرويج، حدث في مطلع الثمانينات، وفي إيطاليا، لم يحدث سوى في مطلع التسعينات. ولا تزال الأسباب الكامنة وراء هذا التوجه غامضة، إلا أن كولر يتوقع أنه بمجرد بلوغ الدول مستوى معين من التنمية، يصبح بإمكانها تحمل تكاليف إقرار تغييرات تمكن النساء من العمل والعناية بالأطفال في ذات الوقت. فمثلا، أنشأت دول اسكندنافية كثيرة أنظمة سخية توفر رعاية مجانية للأطفال. وفي الولايات المتحدة، تزيد رواتب النساء بدرجة كافية لسداد تكاليف توفير رعاية للأطفال. ورغم أن البحث التحليلي لم يفحص تحديدا التأثير الذي تخلفه الهجرة على معدلات الخصوبة، فإن كولر قال، إن دراسات أخرى تشير إلى أنه في الوقت الذي ربما تضطلع الهجرة بدور في زيادة معدلات الخصوبة بدول بلغت مستوى تنمويا متقدما، فإنها لا تشكل العامل الوحيد وراء الزيادة برمتها. من جهته، قال تولجابوركار، «تخميني أنه داخل هذه الدول الثرية، تتدفق فوائد المستوى التنموي الأعلى على نحو متزايد باتجاه المرأة. تتمتع المرأة بمستوى تعليمي أكبر، ونظرا لتمتعها بتعليم ومهارات أكبر، فإنها ربما تجد من الأيسر الحصول على إجازة لمدة عام لإنجاب طفل وتحمل التكاليف الإضافية المترتبة على ذلك، ثم العودة إلى صفوف قوة العمل». إلا أن آخرين أثاروا الشكوك حيال العلاقة بين الأمرين. وقال إس. فيليب مورغان، بروفيسور علم الاجتماع والدراسات الدولية بجامعة ديوك، «لا أعتقد أن المخاوف إزاء انخفاض معدلات الخصوبة اختفت. هناك الكثير من العوامل التي يحتمل أنها ساعدت في رفع معدلات الخصوبة مجددا بخلاف التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لنفترض أن إجماعا ظهر حول أهمية إنجاب الأطفال. ربما كان هناك تحول أيديولوجي تمخض عن هذه النتيجة. إننا لا ندري فحسب». واعترف كولر بوجود بعض الاستثناءات. فمثلا، لا تزال اليابان تشهد انحسارا في معدلات الخصوبة رغم ارتفاع مستوى «مؤشر التنمية البشرية» الذي تحققه. وقال كولر، إن السبب وراء الاستثناءات لا يزال غير واضح، لكنه تكهن بأن وجود تفاوت قوي بين الرجال والنساء في اليابان ربما خلق عقبات أمام المرأة الراغبة في العمل وإنجاب الأطفال في ذات الوقت. واستطرد موضحا أنه «في اليابان، هناك عدم مساواة شديد بين الرجل والمرأة مما يجعل من العسير على المرأة البقاء في سوق العمل بمجرد إنجابها أطفالا، وذلك بسبب عدم توافر خيارات الرعاية المناسبة والضغوط الاجتماعية اللازمة». إلا أن كندا شكلت استثناء آخر من دون سبب واضح. بغض النظر عن السبب، يبدو أن هذا التوجه سائد بالكثير من الدول. فمؤخرا، حققت الولايات المتحدة معدل خصوبة عند مستوى معدل الإحلال، وتقترب دول أخرى، مثل النرويج وفرنسا، مع معدل الإحلال مجددا. وفي الوقت ذاته، لا تزال الكثير من الدول تشهد معدلات خصوبة بالغة الضآلة. لكن كولر أكد أنها، على الأقل، تسير بالاتجاه الصحيح. وقال، «يكشف ذلك أن مسألة بناء أسر لا تزال تحظى بتقدير بالغ في المجتمعات المتقدمة. مع ازديادنا ثراء وتقدما، من المحتمل أن يبقى الأطفال جزءا أساسيا من حياة الفرد. إن الأسرة لا تتحرك بالضرورة باتجاه الفناء».

(* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»)