«غي مانوكيان» يعزف على وتر استنفار الشبان في «بيت الدين»

ما بين إحباط الجمهور وانتشائه بموسيقات العالم

غي مانوكيان يؤدي إحدى معزوفاته (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

حفل الموسيقي اللبناني الأرمني غي مانوكيان في «مهرجانات بيت الدين» يوم أول من أمس، خيّب البعض وأسعد البعض الآخر، فقد ابتدأ بعزف حيوي بهيج، وانتهى بصخب غنائي راقص. الأغلبية الشبابية التي حرصت على حضور هذه الأمسية الموسيقية، جهّزت نفسها لسهرة عامرة، في ما ظن البعض أنه آت لحضور ما هو أرفع من مستوى الحفلات التي تشتغل على وتيرة التحميس والترقيص، نظرا لسمعة مهرجانات «بيت الدين» التي تستضيف كبار الفنانين، وأكثرهم رقيا. فهنا غنى بلاسيدو دومنغو وفيروز، ورقصت ماري كلود بيتراغالا. ومنذ أيام فقط وقفت على هذا المسرح البديعة آمال ماهر وبعدها كان شارل أزنافور. الموسيقي اللبناني ـ الأرمني غي مانوكيان، ذو سمعة ممتازة وأسطوانته الأخيرة «أسومان»، سجلت أرقام مبيعات قياسية في لبنان. وقد حرص على عزف عدة مقطوعات منها «شاهزاد» و«ماي لاند». ميزة مانوكيان، أنه استطاع إدخال الأغنية اللبنانية إلى صميم النوادي الليلية، وأن يغربها ويحدثها بحيث بقيت محتفظة بروحها الشرقية وقادرة في الوقت نفسه على اختراق قلوب الشبان المعلقين بحبال الغربي الآتي من بعيد. مهارة مانوكيان في العزف على البيانو، لم تكن لتكفيه فاستعان باستمرار بموسيقيين يكملون معه اللوحات الموسيقية التي يكتبها أو يؤديها. في بيت الدين لم يغير مانوكيان عوائده، بل على العكس، فقد رافقته الأوركسترا الفلهارمونية الأرمنية وبعض الموسيقيين اللبنانيين. الآلات الشرقية والغربية كانت تتلاقح فتصدر أنغاما لها سحرها الخاص. حيوية عزف الأوركسترا وبراعتها كانت كفيلة بأن تؤمن حفلا على مستوى رفيع لو أحسن اختيار المقطوعات. لكن مانوكيان على ما يبدو، يفضل تحميس الجمهور ورؤيته مستفزا، يصرخ ويتمايل على أن يبهره ويتركه هادئا مصغيا وهادئا. فبعد أن عرضت الشاشتان الكبيرتان الموجودتان على جانبي المسرح مشاهد لمغنين من مختلف أنحاء العالم، استلهمهم مانوكيان وتفاعل معهم، وأرتنا هذا الفنان مستقبلا ومحتفى به في الشرق والغرب، لمعت الشاشة الثالثة التي غطت خلفية المسرح وأخذ أعضاء الأوركسترا أماكنهم ومن ثم أطل غي مانوكيان، وبدأ الحفل بمقطوعات من تأليفه، تجمع بين الأرمني والعربي والغربي. في ما كانت الشاشة الخلفية تعرض رقصا أشبه بالهندي، أو تعيدنا إلى صور عائلية قديمة، بالأبيض والأسود، تعبث بها أيد كأنها تبحث عن ذكريات مضت. لا تخلو أي قطعة موسيقية لهذا الشاب اللبناني المولد والنشأة من لمسة أرمنية يستعيد بها أصول عائلته. ورغم أن موسيقاه تبدو عازمة على الفرح، إلا أن الحنين والحزن كامن دائما في مكان ما خلف هذه المعزوفات التي تصر على جعل الطبلة والدف مع البيانو كعماد أساسي في تكوينها. وما دمنا نتكلم عن الحنين عند مانوكيان فالمعزوفة التي أداها لبيروت، لم ترافقها صور على الشاشات لبيروت اليوم، بل لبيروت الستينات، في عصرها الذهبي الغابر الذي يحلو للبنانيين التغني به، وعندها ساد صمت قوي، وبدا أن الجميع يستغرق في أيام، على الأرجح، أن غالبية ساحقة من الحاضرين، لا يعرفونها إلا تواترا على ألسنة الأهل، أو في ألبومات العائلات القديمة. من بنك إنترا الشهير، إلى حفلة انتخاب ملكة جمال لبنان في الكازينو، إلى وسط المدينة أو ساحة البرج حين كانت ملتقى اللبنانيين وتقاطع التقائهم.

لكن هذا الجزء الرصين من الحفل الذي كان يبشر باستكمال أكثر تشويقا، سرعان ما انقلب إلى حالة أخرى، واخذ مانوكيان يقدم لنا مغنين، بعضهم لا مستوى فنيا حقيقيا لهم، يستدعي إشراكهم في الحفل، مثل المغنية الآتية من نيويورك، وأدت أغنية لم نتمكن خلالها من سماع صوتها، أو الفنانة القادمة من السويد ليلى صاحبة أشهر أغنية في ألبوم مانوكيان الجديد، التي طلعت على المسرح فقط لتحيي الجمهور، وتقول له إنها تحبه وتحب لبنان، دون أن تؤدي أغنيتها الشهيرة «شوتينغ ستار»، وتنسحب من المسرح، وسط استغراب الحاضرين، وخيبة أملهم. فكيف لهذه السويدية أن تأتي من آخر الدنيا، فقط لتلقي التحية سريعا، دون أن تؤدي أغنيتها، التي عشقها الكثيرون. حضور فرقة «جيبسي باشين» اللاتينية وأداؤها لبعض الأغنيات الشهيرة، وتقديمها لوصلة بالعربية مثل «يا مصطفى» أمر أسعد الجمهور الذي كان يبحث عن فرصة للرقص والترفيه، لكن في الحقيقة أن هذا الأسلوب الشعبي في تقديم الحفلات الشائع في لبنان، كان مهرجان مثل بيت الدين ينأى بنفسه عنه حافظا مسافة بين ما يمكن أن يجده المتفرج في المطاعم والمقاهي، وما يستحق أن يتكلف من أجله عناء الانتقال إلى بيت الدين ودفع التذكرة التي ليست برخيصة عموما. هذا الكوكتيل غير المتجانس الذي رأيناه في حفل غي مانوكيان، يجعل الحاضر يتساءل: إلى أين تذهب المهرجانات، إن هي سايرت الشعبي واليومي، ولم تحتفظ لنفسها بحق تقديم المغاير، والقادر على صقل أذواق الناس. فالحفل الذي قدمته حنين في بيت الدين أيضا مع فرقة كوبية منذ عدة أيام، هو من نوع تلك الحفلات التي يمكن أن نراها في المطاعم الفاخرة، أو المهرجانات ذات المستوى المتوسط. والفنانان اللبنانيان من فرقة الفرسان الأربعة اللذان رافقا غي مانوكيان في عدة أغنيات، رغم الشعبية التي تتمتع بها هذه الفرقة، وقدرتها على تحريك المشاعر تبقى فرقة شعبية لا تتميز بفرادة تذكر، باستثناء كلمات أغنياتها الخاصة التي لم تقدمها في هذا الحفل تحديدا.

في نهاية السهرة قرر مانوكيان أن يعزف أغنية فيروز «نسم علينا الهوا» على طريقته، وبتوزيع مبتكر، وعزف هذه الأغنية بعبقرية تسجل له. ولا بد أن من يتذوق الموسيقى، وانسحب قبل انتهاء الحفل، فاتته هذه المعزوفة التي أبدع بها مانوكيان، وأجاد وربما أنه أصيب بشيء من النشوة الكبرى، وهو يرى الجمهور يصفق بحرارة عالية، ويهجم باتجاه المسرح، فكانت نهايات المعزوفة بديعة ولافتة. هذا يعني أننا أمام موسيقي له إمكانيات كبيرة، وقدرات لا يستهان بها، لكن الاستمرار في مسايرة ما يطلبه عامة الجمهور دون الالتفات إلى المستوى قد ينحدر بمانوكيان، ومهرجانات بيت الدين إلى أماكن لا أحد يتمناها لها.