من ذاكرة المام ـ رئيس ـ طالباني: كنت أصغر أعضاء الحزب الديمقراطي سنا.. وقدت مظاهرة في 1948 ضد الاستعمار البريطاني

الرئيس العراقي يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ذكرياته.. ويكشف: في بغداد تبلورت لدينا فكرة النضال المشترك مع العرب (الحلقة 4)

طالباني مع الشاعر محمد مهدي الجواهري تتوسطهما زوجته هيرو خان في دمشق عام 1981 («الشرق الأوسط»)
TT

الجميع هنا يتحدثون مع الرئيس العراقي باسم مام جلال، أو حتى عندما يتحدثون عنه، فهو بين الكرد رمزهم الشعبي والسياسي، وهذا الرمز يعني بالنسبة إليهم أعلى درجة من السيد رئيس الجمهورية، يعلق محارب قديم من البشمركة في إجابته على سؤالي «لماذا لا تنادونه بالسيد الرئيس؟»، فيقول «بإمكان أي عراقي أن يكون رئيسا للجمهورية، إذا توفرت لديه الظروف، إذا اتفقت الأحزاب فيما بينها، لكن ليس بإمكان أي عراقي، سواء كان عربيا أو كرديا أن يكون مام جلال، نحن عرفناه في الجبل بهذه التسمية وسنبقى نعرفه هكذا، إذا تحدثت مع زوجتي في البيت عنه بوصفه رئيسا للجمهورية، فإن زوجتي التي تعيش معي في قرية على حافة جبل لن تعرف عمن أتكلم، لكنني عندما أقول مثلا كنا مع مام جلال، فسوف تعرف فورا من أعني بالضبط».

بالنسبة لي، كنت كلما أنادي الرئيس طالباني بالسيد الرئيس يجيب قائلا «نعم، تفضل أستاذ»، وعندما طلبت منه بلطف أن لا يناديني بلقب أستاذ، بل بمفردة أخي مثلما يفعل مع الآخرين، أجاب على الفور «إذا ناديتني باسم مام جلال، فسوف أرد عليك بكلمة أخي، أنا لا أحب تعريفي بالسيد الرئيس، بل بمام جلال». كان موعدي معه الساعة التاسعة صباحا، وصلت إلى مسكنه في منتجع دوكان، قبل الموعد بعشرين دقيقة، كنت أجلس مع سكرتيره الصحافي مكوك، في الطابق الأرضي، سألته إن كان الرئيس يتذكر الموعد، فأجاب مبتسما بأن مام جلال لا ينسى أي موعد على الإطلاق، وما إن حلت الساعة التاسعة حتى جاءني صوته من الطابق العلوي سائلا عني.

مام جلال دقيق في كل شيء، ومنظم للغاية، وربما هذه إحدى نقاط تقدمه في الحزب، تنظيمه الدقيق. وفي حلقة اليوم يستعرض الرئيس العراقي تاريخ انتمائه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة ملا مصطفى بارزاني.

جاء انتماؤه التنظيمي للحزب الكردي الجديد، بل كان أول حزب سياسي كردي في العراق، على يد أحد أساتذته «كان أحد أساتذتنا، واسمه طاهر سعيد، قد رصد نشاطنا، وهو الذي اختارني والصديق وريا كاميراني لعضوية الحزب، وكان يدعونا إلى بيته ليتلو علينا أفكار الحزب وثقافته، وقد طلب منا أن نكتب طلبات بالانضمام إلى الحزب الديمقراطي الكردي العراقي، وبالفعل قدمنا طلباتنا وتم قبولنا في 1947، وكنا أصغر الأعضاء عمرا 13 و14 سنة». لم تكن حلقة الحزب الطلابية في كويسنجق كبيرة، بل كانت تضم ثلاثة طلاب فقط، أحدهم طالباني، الذي أصبح في عام 1947 عضوا رسميا في الحزب، أي عندما كان عمره 13 عاما، وبذلك كان أصغر الأعضاء سنا على الإطلاق، في وقت كانت أفكار الحزب الجديد تفرض سيادتها على الشارع في كويسنجق، على عكس بقية المدن، إذ كانت السيطرة للحزب الشيوعي العراقي. وسرعان ما استقطب الحزب الديمقراطي الكردي بأفكاره القومية و«التقدمية» أعدادا كبيرة من المثقفين والطلبة والكسبة وتنظيماته صارت أقوى من الحزب الشيوعي العراقي.

القيادة في شخصية مام جلال موهبة، كل من عرفه يعترف بذلك، هذه الموهبة التي برزت منذ طفولته هيأته لأن يكون ناشطا في حزبه منذ أول أيام عضويته، ويقول طالباني «في 1947 عندما أصبحت عضوا في الحزب بدأ نشاطي في كسب الطلبة الآخرين والشباب إلى صفوف الحزب، وفي عام 1948 دخلت الدراسة المتوسطة في متوسطة كويسنجق، عند ذاك صرت مسؤول الطلبة في الحزب الديمقراطي الكردي في منطقة كويسنجق. كان التنظيم سريا، وكذلك تنظيمات الحزب الشيوعي كانت سرية أيضا، حيث كانت هناك أجهزة أمنية تتابع النشاطات السرية، وفي كويسنجق كان الجهاز الأمني يسمى التحقيقات الجنائية، ويوجد فيه موظف واحد يراقب هذه النشاطات، وبسبب الشعور القومي وتعاطف الناس معنا فقد كان تأثير هذا الجهاز الأمني أو هذا الموظف ضعيفا جدا، حتى حدثت وثبة يناير (كانون الثاني) 1948 حيث قامت المحاكم العرفية التي بدأت باعتقال السياسيين».

تبرز هنا العقلية المتحررة لعائلة طالباني، لوالده الذي كان شيخ الطريقة القادرية في التكية الطالبانية، الذي لم يعترض على نشاطات ابنه السياسية، ذلك أن الخطاب الكردي أسس على قيم قومية وليس على مبادئ طائفية أو مذهبية، وهذا الخطاب لم يتعارض أو يتقاطع مع الدين الإسلامي، وجل قادة الثورة الكردية الأوائل هم إما من رجال الدين أو من عائلات متدينة، ويأتي في مقدمتهم الزعيم الكردي ملا مصطفى بارزاني، والشيخ محمود الحفيد، ومسعود بارزاني الذي ترعرع أصلا في المشايخ أو على يد ملا.

عندما بلغ طالباني الخامسة عشرة من عمره، فاجأ الأوساط في كويسنجق بقيادته تظاهرة بدأت طلابية وتحولت إلى جماهيرية تضامنا وتأييدا لوثبة يناير (كانون الثاني) عام 1948 التي اشتعلت كانتفاضة شعبية ضد الاستعمار البريطاني في بغداد، ومن ثم انتشرت شرارة هذه الانتفاضة إلى عموم العراق، يقول طالباني، «في شهر يناير (كانون الثاني) 1948 كنت في الصف الأول المتوسط عندما حدثت وثبة كانون الثاني ببغداد، وشارك الحزب الديمقراطي الكردي في هذه الانتفاضة بفاعلية، حيث كان عمر دبابة في مقدمة المتظاهرين وجرح نتيجة إطلاق النار عليه، وكان هناك أيضا عضو الحزب صالح رشدي، الذي ألقى الخطابات في المظاهرة، ونحن في كويسنجق خرجنا في مظاهرات دعما لما حدث في بغداد من تظاهرات، وشاركنا نحن بفاعلية في هذه التظاهرات، كانت كويسنجق وقتذاك من المدن المعروفة بثوريتها وحسها السياسي، وكان يقال إن هناك ثلاث مدن هي كويسنجق وزاخو والنجف معروفة بمعارضتها الشديدة للحكم ونشطة ثقافيا وإبداعيا وسياسيا».

في ذلك العام، 1948، برزت على سطح الأحداث السياسية في العراق فكرة تأسيس اتحاد الطلبة العام في العراق، وهو أول اتحاد سياسي طلابي عراقي، لهذا جرت انتخابات في المدارس المتوسطة والثانوية والمعاهد والجامعات، لترشيح الذين سيشاركون في المؤتمر التأسيسي للاتحاد، الذي سيعقد في بغداد، ولم يكن غريبا أن يتم انتخاب مام جلال، ممثلا عن طلبة كويسنجق للمشاركة في المؤتمر.

انشغل طالباني بالتحضيرات السياسية لغرض السفر إلى بغداد، العاصمة، أكبر مدن العراق وأكثرها تعقيدا، وهو كان قد سافر إلى بغداد سابقا لأغراض علاج عينه، لكن هذه الزيارة تحمل طابعا مختلفا كليا وبعدا سياسيا، فهو ذاهب ممثلا عن طلبة مدينته ومشاركا في مؤتمر تاريخي، سيبقى في ذاكرة الأحداث السياسية العراقية لسنوات طويلة قادمة. ترى هل فكر مام جلال أين سيضع قدمه وسط الحشود الطلابية القادمة من جميع أنحاء العراق؟ وهذه بغداد المزدحمة بالأحزاب السياسية والأفكار والأسماء والشخصيات والأصوات؟ لكن مثل هذه الأسئلة لم تتبادر إلى ذهن أصغر سياسي عراقي كردي يشارك في هذا المؤتمر التاريخي، بل هيأ أفكاره وحقيبته وارتدى الزي الكردي، متسلحا بثقته المعهودة بنفسه، ومغادرا إلى بغداد مع أعضاء الوفد السياسي المشارك في المؤتمر. يقول طالباني «ذهبت إلى بغداد، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى العاصمة بسبب نشاط سياسي، حيث كنت قد زرتها من قبل لأسباب صحية ومراجعة الأطباء لعلاج عيني، أخذنا سيارة من كويسنجق حتى كركوك، ومن هناك صعدنا القطار إلى بغداد، وفي الطريق كنت أفكر كيف سيكون المؤتمر وماذا سنعمل». وأضاف «كانت هناك جماهير طلابية كبيرة قد شاركت في هذا المؤتمر الذي كان لحزبنا فيه حضور فاعل».

وكان أن تعاطف العراقيون مع المؤتمر، فتحول من مؤتمر طلابي إلى جماهيري، وتم الاحتفال بتأسيس اتحاد الطلبة العام في العراق في واحدة من أبرز ميادين بغداد وقتذاك، وكانت تحمل اسم (ساحة السباع) حتى إنه أطلق على المؤتمر تسمية (مؤتمر السباع) وسيعرف بهذا الاسم فيما بعد، خاصة في أدبيات الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان وراء تأسيس الاتحاد، ونسبة إلى الساحة التي تقع في منطقة الفضل بجانب الرصافة من بغداد، حيث تتوسطها نافورة تقوم فوق منحوتات لأربعة أسود، سباع.

يتذكر مام جلال، قائلا «احتفل المشاركون بنجاح المؤتمر وتحولت المناسبة إلى احتفال شعبي كبير، شارك فيه جمع غفير من العراقيين، وأتذكر أن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ألقى قصيدة في هذا الاحتفال بعنوان «يوم الشهيد»، التي قال فيها:

* « يومَ الشَهيد: تحيةٌ وسلامُ ـ بك والنضالِ تؤرَّخُ الأعوام

* بك والذي ضمَّ الثرى من طيبِهم ـ علمُ الحساب، وتفخر الأرقام

* بك والضحايا الغُرِّ يزهو شامخا ـ تتعطَّرُ الارَضونَ والأيام

* بك يُبعَث «الجيلُ» المحتَّمُ بعثُه ـ وبك «القيامةُ» للطُغاة تُقام

* وبك العُتاة سيُحشَرون، وجوهُهُم ـ سودٌ، وحَشْوُ أُنوفهم إرغام».

كان طالباني على استعداد لأن يقول القصيدة حتى نهايتها، ضابطا مخارج الحروف بكل عناية، فالمعروف عنه أنه يحفظ غالبية قصائد الجواهري، بل إن دواوين شعر الجواهري لا تفارق مكتباته، وعندما كان شاعر العرب الكبير يقول قصيدته، كان طالباني يقف قريبا منه. ويقول طالباني «كانت هذه هي المرة الأولى التي التقي فيها بالجواهري وجها لوجه، وكنت معجبا بهذا الشاعر الكبير، حيث حفظت الكثير من أشعاره من دون أن أفهم معناها، لأن لغتي العربية كانت ضعيفة وقتذاك، إذ كنا ندرس حصة واحدة للغة العربية في المدرسة الابتدائية، لكنني كنت حريصا ومثابرا على تعلم العربية، وقد اشتركت وأنا في الصف الخامس الابتدائي بالحصول على جريدة «الأهالي»، التي كانت تصدر في بغداد وباللغة العربية طبعا، وكنت أقرأ الجريدة من غير أن أفهم كل ما أقرأه، وقد ساعدتني أشعار الجواهري وجريدة «الأهالي» في تعلم العربية».

كان عقد هذا المؤتمر ومشاركة طالباني مناسبة لأن يلتقي بأعداد كبيرة من الطلبة العرب والتركمان القادمين من كل مكان، وقال هناك «شكلنا نحن كتلة الحزب الديمقراطي الكردي، ولنقل اسمه (البارتي) كما يسمى شعبيا، وقد انتخب اثنان من حزبنا كأعضاء في اللجنة الإدارية لاتحاد الطلبة، بينما انتخبت أنا عضو احتياط، وكان عمري وقتذاك 15 سنة».

كان تأثير مشاركة مام جلال في هذا المؤتمر كبيرا جدا، فهذه هي المرة الأولى التي يحتك فيها مع بقية العراقيين من القوميات والأحزاب الأخرى، خاصة العرب، وهي مناسبة، أيضا في أن تتحول شعارات الكفاح الوطني المشترك إلى فعل ملموس، حسبما يوضح قائلا، إن «مشاركتي في اجتماعات اتحاد الطلبة العام في العراق كانت مناسبة لأن تنمو في داخلي فكرة التآخي العربي الكردي والنضال المشترك، هذه المناسبة بالذات أكدت لنا ما كنا نبحثه ونتحدث عنه في نقاشاتنا داخل الحزب حول إمكانية فكرة النضال العربي الكردي المشترك ضد الاستعمار البريطاني والنظام الملكي، وأستطيع القول إن هذه المناسبة كانت بالنسبة لي نقطة تحول فكرية هامة في حياتي للتحول من موقع النضال الكردي البحت إلى النضال العراقي المشترك، نقلتني من محيط إلى محيط آخر أوسع وأعمق، وأنا كنت مؤمنا بهذه الأفكار ولكني عندما ذهبت إلى بغداد كان موجهنا في هذا الاتجاه هو عمر دبابة، وكان هذا الموضوع هو شعار المرحلة، بل شعار إستراتيجي لوثبة يناير (كانون الثاني)، حيث أتذكر أن أحد الشعارات التي كانت مرفوعة في اللافتات تقول: على صخرة النضال العربي الكردي المشترك يتحطم الاستعمار ومشاريعه، كما أتاح لنا، أو لي خاصة اللقاء مع الأخوة العرب المشاركين في المؤتمر والتعرف عليهم وعلى أفكارهم عن قرب وبصورة مباشرة، لهذا تبلورت لدينا فكرة التلاحم والنضال المشترك مع العرب».

لا يضع طالباني في عمله أو تحركاته حدودا يقف عندها، كما أنه لا يتجاوز حدود غيره، فبالنسبة لطفل في عمر الخامسة عشر يأتي من مدينة بعيدة عن العاصمة العراقية، مدينة تكاد تكون معزولة داخل محيطها الكردي الكردي، ويتم انتخابه من بين المئات من الطلبة العراقيين المشاركين في أول مؤتمر تأسيسي لأول اتحاد طلبة عام وسياسي، كعضو احتياط في الهيئة الإدارية، يعد انجازا أكثر من كبير، وبذلك هو لم يكن أصغر مشارك في المؤتمر على الإطلاق، بل هو أيضا أصغر عضو هيئة إدارية، وإن كان احتياطا، لأكبر وأول وأهم اتحاد للطلبة العراقيين. وغير هذا سيلتقي هذا الطفل الذي يحمل لقب العم (مام) جلال بشخصيات سياسية وثقافية، كان أولهم الجواهري، الذي سيضحى واحدا من أكثر أصدقائه المقربين، ما كان يفكر بلقائها في يوم من الأيام، لكنه يفعل كل ذلك بتوازن محسوب وبشخصية واثقة من تحركاتها، حتى إنه يقول إن «زيارتي هذه إلى بغداد كانت زيارة عمل سياسي، مؤتمرات واجتماعات في النهار والليل ونقاشات مطولة حول قضايا كثيرة، وحتى زياراتنا التي هي خارج برنامج المؤتمر كانت سياسية فمثلا أخذونا في زيارة إلى جريدة «الوطن» التي كان يصدرها عزيز شريف، وكانت هذه مناسبة مهمة بالنسبة لنا إذ لأول مرة نزور جريدة عراقية في بغداد باعتبارنا وفد الطلبة الأكراد، ويستقبلنا الأستاذ شريف، بينما نحن كنا أطفالا، أو أنا على الأقل، كان عمري 15 سنة وقتذاك، وقبلها وكما ذكرت كنا قد التقينا لأول مرة بالشاعر الكبير الجواهري، ثم التقينا كبار السياسيين العراقيين أمثال السياسي المعروف كامل الجادرجي في جريدته «الأهالي»، وأضاف «هذه الأجواء الجديدة التي عشتها ببغداد كانت تختلف بالتأكيد عن زيارتي الأولى للعاصمة، التي كانت لأغراض علاج عيني، ومراجعة أطباء العيون، ونقلتني من أجواء مدينة صغيرة مثل كويسنجق إلى أجواء مدينة كبيرة هي بغداد، والتعرف على المجتمع البغدادي، فمثلا أنا كنت، وما زلت، أحب الكتب لهذا زرت شارع المتنبي، ودخلت إلى مكتباته الضخمة والعريقة، لهذا تركزت في ذهني صورة بغداد كمركز ثقافي وحضاري ومركز سياسي، إذ بقيت هناك أكثر من أسبوعين، أمضيت منها أسبوعا سياسيا، وبقية الأيام أمضيتها في التجول ببغداد، حيث زرنا الكاظمية والأعظمية ومقرات الأحزاب السياسية في مناطقهم، وكنت أرتدي خلال الاجتماعات الزي الكردي، بينما ارتدي خلال جولاتي الزي الاعتيادي (الأفندي) مثلما كنا نسميه، بدلة اعتيادية، حيث كنا نرتدي الزي الكردي في مدارسنا، وأنا كنت مع القليل من زملائي نرتدي أحيانا في كويسنجق البدلة الاعتيادية (الأفندية)، لهذا كان طبيعيا أن أرتدي الزي الكردي في بغداد، والبغداديون يعرفون هذا الزي ومتعودون عليه بسبب وجود عدد كبير من الكرد في العاصمة، وقد تعامل معنا أهالي بغداد بمودة وحفاوة ومحبة، وفي المؤتمر لقينا كل الترحاب من سكان بقية المدن حيث كانت نسبة وجود الشيوعيين عالية وكان هناك مندوبون لحزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي والبارتي (الحزب الديمقراطي الكردي) وأعضاء من مختلف الأحزاب السياسية، وقد تعامل معنا أعضاء بقية الأحزاب معاملة خاصة، يرحبون بنا ويقدموننا على أنفسهم ويهتمون بأمورنا، وهذا ما ركز موضوع الأخوة العربية الكردية وفكرة النضال المشترك».

لم يكن في كردستان العراق أي تنظيم سياسي سوى الحزبان الشيوعي العراقي والديمقراطي الكردي، لهذا كان من الطبيعي أن يكون أعضاء أو ممثلو الحزب الكردي هم الوحيدون الذين يمثلون أكراد العراق في هذا المؤتمر، الذي بقي علامة بارزة في بدايات تاريخ طالباني ومنحه الكثير، يقول «كنا نحن الجهة الوحيدة الممثلة للأكراد، إذ لم تكن هناك احزاب كردية في العراق، كان هناك في كردستان تنظيمان سياسيان، الأول الحزب الشيوعي فرع كردستان والحزب الديمقراطي الكردي (البارتي)».

بعد أكثر من أسبوعين أمضاها مام جلال، مع بقية أعضاء الوفد في بغداد، يعود إلى كويسنجق عودة «المظفرين»، على حد وصفه قائلا «عدنا إلى كويسنجق عودة المظفرين المنتصرين، وصرنا نعقد الاجتماعات ونتحدث إلى الطلبة عن المؤتمر وعما شاهدناه في بغداد، وكذلك عن مضامين الأخوة العربية الكردية ومبادئ الكفاح العربي الكردي المشترك، وقتذاك كنت أنا المسؤول عن اللجنة الطلابية في الحزب الديمقراطي الكردي، وبعد ذلك بعام، أي في 1949 صرت عضوا في اللجنة المحلية للحزب في كويسنجق، أي تم ترفيعي إلى مرحلة حزبية أعلى، وكان معنا وقتذاك منظمنا علي عبد الله نائب رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني حاليا».

وحتى ذلك الوقت كان ملا مصطفى بارزاني، مؤسس وزعيم الحزب الديمقراطي الكردي في العراق، خارج البلد، إذ بعد أن أعلن مع رفاقه الأكراد جمهورية مها آباد الكردية في إيران، التي أجهضها النظام الشاهنشاهي في إيران، لجأ بارزاني إلى الاتحاد السوفياتي وبقي في موسكو حتى عام 1959، لذا لم تتح هذه السنوات الأولى من التحاق طالباني في الحزب اللقاء بزعيمه. على الرغم من كل هذه المشاغل السياسية، التي ارتبط بها مام جلال منذ طفولته، فإنه كان المتفوق الأول في جميع مراحله الدراسية، إذ كان هناك قانون، أعيد العمل به خلال السبعينات، يسمح للطالب بعدم خوض الامتحانات النهائية في الصفوف غير المنتهية، أو الخاضعة للامتحانات الوزارية، إذا حقق معدلا في درجاته الفصلية يبلغ الـ90 في المائة. وكان طالباني من أكثر المستفيدين من هذا القانون فهو لم يخض الامتحانات النهائية للمراحل الدراسية، الأول والثاني متوسط والرابع الثانوي، بينما نجح في العام الدراسي 1949 ـ 1950 في الامتحان الوزاري (البكالوريا) للصف الثالث متوسط أولا على جميع مدارس لواء (محافظة) السليمانية. ويؤكد ذلك بقوله «تخرجت من المتوسطة بتفوق حيث كنت الأول على المدرسة دائما، على الرغم من عملي السياسي، وفي دراستي المتوسطة بدأت لغتي العربية تتحسن كثيرا، وبدأت أحفظ قصائد الجواهري وأقرأ صحيفة «الأهالي» والكتب العربية، وأحفظ المفردات العربية من معجم المنجد، وكنت أحصل على درجة كاملة في مادة الإنشاء العربي، وأتذكر أني قرأت قصيدة للجواهري، كانت في رثاء السياسي العراقي (جعفر أبو التمن) ونشرت في صحيفة «الأهالي»، وقد حفظت بيتين منها من غير أن أفهم معناها، ومطلعها:

* ذعر الجنوب فقيل كيد خوارج ـ وشكا الشمال فقيل صنع الجواري.

ومن ثم سألت عن معاني كلمات القصيدة وفهمتها».

وأضاف طالباني «لم تكن في كويسنجق مدرسة ثانوية، لهذا تحتم علي السفر إلى أربيل لإكمال دراستي الثانوية هناك، ومع أربيل تبدأ مرحلة أخرى من تاريخي الحياتي والسياسي».