تشيني يخرج عن صمته وينتقد بوش: تحول في رئاسته الثانية إلى «سياسي عادي»

أبدى إحباطه من إقالة رامسفيلد والتضحية بمساعده ليبي.. ويتعهد بفعل ما كان ينتقده سابقا وهو كشف الأسرار

نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني (رويترز)
TT

خلال الشهور القليلة الأولى التي أعقبت رحيله عن دائرة السلطة، دخل ريتشارد ديك تشيني، نائب الرئيس السابق، في صراع علني ضد ما يعتقد أنه أجندة «اليسار المتطرف» التي ينتهجها الرئيس الجديد باراك أوباما. لكن مع قضائه مزيدا من الوقت في التأمل، وفي الوقت الذي بدأت تتضح فيه ملامح مذكراته الشخصية، فتح تشيني جبهة صراع جديدة، مستهدفا هذه المرة رفيقه في البيت الأبيض طيلة ثماني سنوات، جورج دبليو بوش الرئيس السابق. بدأت مشاعر إحباط تشيني تجاه الرئيس السابق تظهر أخيرا على السطح، في إطار واحدة من المحادثات غير الرسمية التي أجراها لمناقشة مذكراته مع عدد من الكتاب والدبلوماسيين والخبراء المعنيين بالسياسات وزملاء سابقين له. بوجه عام، فقد اعتاد تشيني الإنصات أكثر من الحديث، لكنه كسر هذه القاعدة عندما سئل عن الأمور التي يشعر حيالها بالندم. وأشار أحد المشاركين في لقاء حضره تشيني أخيرا، إلى أن رد نائب الرئيس السابق في هذا الصدد تمثل في أنه «في فترة الرئاسة الثانية، راوده الشعور بأن بوش يبتعد عنه. وقال إن بوش تقيد برد الفعل العام والانتقادات التي تعرض لها. وأبدى بوش قابلية أكبر للتأثر بهذا الأمر». وأضاف الراوي أن تشيني أبدى في اللقاء اعتقاده بأن بوش بات يبدي ميلا أكبر لرفض نصائح تشيني، والواضح أنه أظهر قدرا من الاستقلالية جاء بمثابة مفاجأة لنائبه. واستطرد موضحا أنه على ما يبدو، فإن سياسة تشيني قامت على اتباع نهج شديد الصرامة طوال الوقت، وعدم الاعتذار أبدا، وعدم تقديم تفسير أو تبرير قط، بينما تحرك بوش بدرجة أكبر باتجاه محاولة التوصل إلى حلول وسطى.

يذكر أن تشيني وبوش يحتفظان بعلاقات يسودها الاحترام بينهما، ويتبادلان الاتصالات الهاتفية من حين لآخر، إلا أن مساعدي كل منهما أوضحوا أنهما لم يكونا صديقين تماما قط. من ناحية أخرى، تحمل انتقادات تشيني، على ما يبدو، بعض المرارة لأنه ينظر إلى مسألة تقديم تنازلات للرأي العام باعتبارها ضعفا أخلاقيا. وبعد سنوات من الإشادة ببوش باعتباره رجلا ذا عزيمة، يصرح تشيني الآن بأنه في نهاية الأمر اتضح أن الرئيس السابق لا يعدو كونه سياسيا عاديا.

الملاحظ أن وجهات نظر تشيني خلال فترة ما بعد الخروج من البيت الأبيض تبقى فريدة من نوعها مثلما كانت دوما خلاف فترة توليه منصب نائب الرئيس، المنصب الذي تمكن من تحويله إلى محور للسلطة والنفوذ. ويؤكد أصدقاؤه وأقاربه أنه على الرغم من خروجه من السلطة، فإن الوهن لم يصب عزم تشيني على صياغة الأحداث.

ويبقى نائب الرئيس السابق على قناعة بالأخطار القاتلة التي يجابهها، من وجهة نظره، عدد من القادة. ويفسر هذا الاعتقاد الراسخ سلوكه الذي يجده الكثير من النقاد محيرا. من جانبهم، قال معاونوه المقربون منه إن تشيني لا يولي أهمية لنتائج استطلاعات الرأي التي تكشف تدني مستوى شعبيته، أو لتذمر أعضاء الحزب الجمهوري من تأثيره السلبي على الصورة العامة للحزب. من جهته، قال جون بي هناه، مستشار الأمن القومي لتشيني خلال فترته الثانية في البيت الأبيض، إن نائب الرئيس السابق يتحرك الآن مثلما كان الحال دوما، انطلاقا من خوفه من كابوس حصول دولة معادية على أسلحة نووية وتمريرها للإرهابيين. من ناحية أخرى، قال آرون فريدبرغ، مستشار آخر لتشيني بمجال السياسة الخارجية، إن تشيني يؤمن بأن «الكثير من الأفراد يجابهون صعوبة بالغة في الاقتناع بهذه الفكرة واستحضارها في أذهانهم والتعرف على ما تحمله من دلالات». أما الأمر الجديد، تبعا لما أوضحه هناه، فهو استعداد تشيني للاعتراف «بشكوك حيال القنوات الرئيسة للسياسة الأميركية خلال السنوات القليلة الماضية»، وهي فترة تشمل الجزء الأكبر من فترة رئاسة بوش الثانية. واستطرد هناه قائلا: «ليست تلك بالقضايا الصغيرة، وإنما تتعلق بجوهر شخصية تشيني وما يشعر بأنه واجب أساسي» لحماية البلاد من الخطر.

الواضح أن البصمة المميزة التي تركها تشيني على الصعيدين القانوني والسياسي، والتي تحققت خلال فترة رئاسة بوش الأولى في ذروة نفوذه، انحسرت على نحو بالغ بحلول وقت رحيله وبوش عن السلطة، ذلك أن بوش أوقف تنفيذ تكتيك الإيهام بالغرق مع الإرهابيين المتهمين، وأغلق السجون السرية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، وسعى للحصول على موافقة الكونغرس على إجراءات المراقبة الداخلية، علاوة على سعيه للتواصل مع إيران وكوريا الشمالية، اللتين اعتقد تشيني أنهما جاهزتان لـ«تغيير النظام».

حملت بعض الخلافات بين الرئيس ونائبه طابعا شخصيا أكبر. في أعقاب إعفاء بوش دونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق من مهام منصبه، ووصف تشيني رامسفيلد بأنه «أفضل وزير الدفاع»، وأثار مقارنة ضمنية بينه وبين بوش بتأكيد أنه لم يتعلم قط من أي رئيس له مثلما تعلم من رامسفيلد أثناء عمله نائبا له في عهد إدارة فورد.

أما عمق الأسى الذي انتاب تشيني حيال صديق آخر مقرب له، وهو مدير مكتبه السابق، لويس ليبي، فلم يتضح سوى أخيرا. كان بوش قد رفض إصدار عفو بحق ليبي في أعقاب إدانته رسميا عام 2007 بالحنث باليمين وإعاقة عمل سير العدالة فيما يخص تحقيق أجري في تسريب هوية أحد الضباط السريين بوكالة الاستخبارات المركزية. من جهته، حاول تشيني جاهدا الحيلولة دون سقوط ليبي، مشددا في ملحوظة كتبها وتم الكشف عنها علانية أثناء المحاكمة على أنه لن يسمح لأحد بـ«التضحية بالرجل الذي طلب منه تعريض نفسه للخطر الشديد». ومع أن تشيني لم يشرح قط ما يقصده بهذا القول، إلا أن السجلات الصادرة عن هيئة المحلفين ـ ومستشار قانوني مستقل يدعى باتريك جيه فيتزغرالد ـ تلمح إلى أن الشهادة الكاذبة التي أدلى بها ليبي هدفت بصورة أساسية إلى حماية نائب الرئيس.

الشهر الماضي، وصف تحليل نشرته مجلة «تايم»، يعتمد على اتصالات بالمحامي الشخصي لبوش والمستشار القانوني للبيت الأبيض، جهود تشيني المستميتة في نهاية رئاسة بوش لتبديل وجهة نظر بوش حيال مسألة العفو عن ليبي. من ناحيته، أصدر تشيني، الذي اعتاد تجاهل التصوير السلبي له من قبل الصحافة، ردا يحمل غضبا دفينا. في إطار الرد، اتهم تشيني الرئيس السابق بالتخلي عن «رجل بريء» خدمه بإخلاص، قبل أن يتحول إلى «ضحية لسوء تطبيق العدالة». على الصعيد غير المعلن، يقول تشيني حاليا إن مذكراته، المتوقع نشرها في ربيع 2011، ستتضمن وصفا كاملا لمناقشاته المحتدمة مع الرئيس بهذا الشأن.

رغم تداعي الحالة الصحية لقلبه وتضاؤل قدرته على الحركة، يبقى نائب الرئيس السابق في سن الـ86 بقدرة استثنائية على العمل، حيث يحرص على الاستيقاظ مبكرا والإقبال على القراءة بنهم بشأن التاريخ والأحداث الجارية، واشترى جهاز «بلاكبري» في محاولة لتعويضه خسارة التقارير الاستخباراتية الموجزة التي كانت تعرض عليه يوميا. إلا أن ذلك لا يمنعه من الترفيه عن نفسه، حسبما أكدت ليز تشيني ابنته أثناء مقابلة معها، حيث نوهت بأن والدها يستمتع بحريته الجديدة في أن يقوم بجولة صباحية بالسيارة حتى محل «ستاربكس»، لشراء مشروب «لاتيه» خال من الكافيين، حسبما تصر زوجته، لين، وطبيبه الخاص. كما يحضر مباريات كرة القدم والكرة اللينة (سوفتبول) التي تشارك بها حفيدتاه، كيت وإليزابيث، ويقضي بعض الوقت في صيد الأسماك بالقرب من المنزل الذي يقضي به العطلات في وايومنغ وعلى الساحل الشرقي لميريلاند.

إلا أن تشيني يقضي جل وقته فوق مرأب السيارات بمنزله الجديد في مكلين، حيث بنى غرفة مكتب له وملأها بالكتب والملفات الخاصة بفترة عمله نائبا للرئيس. ويحتفظ تشيني بنسخ من وثائق سرية، ويحرص على مراجعة الوثائق الأخرى في زياراته إلى هيئة الأرشيف الوطني. وقد حرص تشيني على كتابة ملحوظات مفصلة خلال فترة عمله بالبيت الأبيض، وأشار أحد الأشخاص ممن ناقشوا معه أمر هذه الملحوظات، إلى أنها ستشكل لب سرده لفترة عمله مع بوش.

من ناحية أخرى، قال أحد معاونيه ممن ناقشوا تشيني في أمر مذكراته: «ما أبهرني حماسه المستمر. إنه لم يتراجع ولو قليلا عن المواقف التي سبق له اتخاذها أثناء عمله بدائرة السلطة. ما زال مهتما بالقضايا الجارية بشدة. ولا يبدي استعدادا للتساهل حيال أي أمر أو قبول تغييرات بمواقف تنطلق من الضمير. لم يمر قط بموقف دعاه للنظر إلى الوراء والقول: «أتمنى لو أنني فعلت أمرا آخرا». وإنما لديه شعور دائم بأنه لم يمض في مناصرة ما يؤمن به على النحو الكافي. ولو كان تم إمداده بمجموعة من الأفراد على مستوى الحماس الآيديولوجي الذي يتمتع به نفسه، كانوا سيتمكنون من العمل بقوة أكبر».

على الجانب الآخر، يرى بعض أقران تشيني القدامى توجهه الجديد القائم على الصراحة انتهاكا للمبادئ الواجب اتباعها. على مدى عقود، أبدى تشيني ازدراءه إزاء المسؤولين الذين خرجوا من مناصبهم وأقدموا على سرد ما كان يدور بدهاليز السلطة، مشددا على أنه من المستحيل إجراء نقاش داخلي صريح إذا عجز الرئيس ومستشاروه عن ضمان السرية. عام 1979، ألفت لين تشيني رواية «الامتياز التنفيذي» (إجزكيوتيف بريفليدج)، والتي عقد أحد أبطالها عزمه على عدم كتابة مذكرات قط لأن «الرئيس يستحق وجود ولو شخص واحد على الأقل حوله يمكنه ضمان صمته». وعلى امتداد الأعوام الثلاثين التالية، التزم تشيني بهذا العهد.

طبقا لرواية أحد الشهود، أصيب تشيني بصدمة بالغة عندما أورد إل بول بريمر، الذي قاد احتلال العراق، كشفا مثيرا للذهول في مذكراته، بذكره أن تشيني شاركه القلق حيال الاستراتيجية العسكرية الأميركية. في المقابل، أشار أحد مسؤولي إدارة بوش بمرتبة وزير إلى أن تشيني وصف المعلومات التي كشف عنها وزير الخزانة السابق، بول إتش أونيل، والمتحدث الرسمي السابق باسم البيت الأبيض، سكوت مكليلان، في مذكراتهما بأنها «غير مقبولة».

في هذا السياق، قال آري فليشر، المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض خلال فترة رئاسة بوش الأولى: «إذا خرج إلى العلن وكشف النقاب عن أسرار ما جرى خلف الأبواب المغلقة، فلن يكون هذا بالأمر اللائق».

إلا أنه على ما يبدو، فإن هذا تحديدا ما ينوي تشيني فعله. جدير بالذكر أن روبرت بارنيت، الذي تفاوض حول عقد الكتاب الخاص بتشيني، أخبر ناشرين محتملين بأن مذكرات تشيني مفعمة بالمعلومات الجديدة، وأن تشيني نفسه قال، من دون مزيد توضيح، إن «قانون القيود انتهى» فيما يخص الكثير من الأسرار التي يحملها بداخله. وطبقا لما ذكره ستيفن هايس، الكاتب المسؤول عن كتابة السيرة الذاتية لتشيني، قال نائب الرئيس السابق: «عندما أصدر الرئيس قرارات لم أوافق عليها، كنت أستمر في تأييده، ولم أخرج عليه وانتقده. الآن، نتحدث عما جرى بعد مغادرتنا المنصب. أحمل مشاعر قوية حيال ما حدث.. وليس لدي ما يمنعني من التعبير صراحة عن آرائي». من جانبها، وصفت ليز تشيني مذكرات والدها بأنها سجل من أجل الأجيال القادمة. واستطردت بأنه «ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار عشقه للتاريخ، وعندما يفكر في أمر مذكراته، فإنه يراها ككتاب سيقرؤها أحفاده». لكن الأصدقاء والأقارب أكدوا أن الأمر الذي لن يفعله تشيني هو الخروج عن تحفظه حيال التعبير عن مشاعره، الذي اتسم به طيلة حياته. وفي إشارة إلى المذكرات التي ينوي بوش نشرها، أخبر تشيني مجموعة من المقربين منه أخيرا بأنه ليس لديه اهتمام «بالتشارك في التفاصيل الشخصية» مثلما ينوي الرئيس السابق عمله.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»