«بيت الكريتلية» بالأزهر تحفة معمارية.. بنكهة الشرق والغرب

حوله إلى متحف ضابط إنجليزي مفتون بجمع الآثار النادرة

طرز مختلفة لأثاث بيت الكريتلية («الشرق الأوسط»)
TT

يمثل بيت الكريتلية واحدا من أهم المنازل الأثرية في مصر، كما يعد تحفة فنية تراثية تحمل بين جنباتها روعة العصر التركي في القرن العاشر الهجري، كما تعكس ملامح من جماليات الفن الأوروبي في تلك الفترة.

تحول هذا المنزل إلى متحف سمي باسم جاير أندرسون، وهو ضابط إنجليزي كان أحد موظفي الجيش المصري ووصل إلى رتبة أمير آلاي، وكان من هواة الآثار الشرقية الإسلامية بوجه خاص، دفعه شغفه لاقتناء مجموعات أثرية نادرة من مختلف العصور، كما قام بتأثيث المنزل بطريقة تعكس مدى الدفء والرفاهية التي كانت تغمر البيوت العربية في ذلك الوقت. اعتزل أندرسون الخدمة من الجيش المصري ثم من السفارة البريطانية بعد ذلك، وطلب من إدارة حفظ الآثار العربية تسليمه منزل الكريتلية ليعرض به مجموعته الأثرية فوافقت الإدارة على تسليمه هذا المنزل والمنزل المقابل له منزل «آمنة بنت سالم» بعد أن قامت بترميمها في مقابل ترك مجموعاته الأثرية هبة لمصر.

ويقول الدكتور رأفت النبراوي، عميد كلية الآثار جامعة القاهرة السابق، «يعد الكريتيلة من أقدم المنازل العربية، وتوجد به مجموعة نادرة ومتنوعة من المقتنيات الفنية الأثرية، والحرف الشرقية المصرية الأصيلة التي تتضمن عددا ضخما من الصنج وهي عبارة عن 1100 قطعة من الزجاج المختوم، ومعظمها يشبه النقود، وهي ذات كتابات عربية، وقد استخدمت هذه الصنج في أول الأمر، كأوزان، ولصك العملة».

ومن الطريف أن أندرسون شيد شاهد قبر لكلبه الأليف الذي اعتاد أن يطلق عليه «فضل أفندي»، ورسم له العديد من اللوحات تخليدا لذكراه، كما رسم بورتريهات متنوعة لخادمه النوبي الصغير «ضبش».

ويتكون متحف بيت الكريتلية من منزلين، أحدهما أنشأه الحاج محمد بن سالم الجزار في عام 1631م، وقد عرف هذا المنزل باسم بيت الكريتلية، وذلك نسبة إلى آخر من سكنه وهي سيدة تعود أصولها لعائلة من جزيرة كريت، فأطلق أهل الحي عليها «الكريتلية».

أما المنزل الآخر فقد أنشأه المعلم عبد القادر الحداد عام 1540م، وأطلق على هذا المنزل فيما بعد «منزل آمنة بنت سالم»، نسبة إلى آخر من امتلكته، واتصل البيتان فيما بعد بقنطرة تعرف بالسباط، واصطلح على تسميتهما بمتحف الكريتلية.

وبكل منزل منهما فناء يمكن الوصول إليه عن طريق مدخل منكسر لا يسمح للمار فيه برؤية من داخل المنزل، وتصميم المنزلين متشابه إلى حد كبير، حيث قسم كل منهما إلى قاعات كبيرة تتكون كل قاعة من إيوانين متقابلين، بينهما مساحة منخفضة تعرف بالدرقاعة، كما نسقت الحجرات وكسيت بالبلاطات الخزفية والرخام، وأقيمت في وسطها الفساقي.

وعند دخولك الفناء ستجد دكة كان يجلس عليها فقيه المنزل لتلاوة القرآن صباح كل يوم. ويشرف على الفناء من الجهة الجنوبية مقعد، نصل إليه من باب عليه عقد شاهق الارتفاع محلى بالمقرنصات والنقوش الدقيقة. وللمقعد عقدان يحملهما عمود رخامي يعلوه تاج، يطلان على الفناء، ويخصص المقعد عادة لجلوس الرجال في ليالي الصيف.

وقد نقش سقف هذا المقعد بنقوش زيتية متعددة الألوان، كما كتب بحروف بارزة اسم المنشئ وتاريخ الإنشاء. وفي المقعد، صفت الآرائك وعليها الأكلمة ذات الألوان المتعددة الجميلة، ولما كانت الدواليب الحائطية مخصصة لوضع الأواني، فقد عرض بالخورنقات التي تعلوها أوان زجاجية. بعضها على شكل زهريات أو طاسات أو قماقم من الزجاج الأزرق المعتم.

ومن المقعد يصل الزائر إلى قاعة كبيرة، بجدارها الغربي بعض الشمسيات ذات الزجاج الملون، وخصصت هذه القاعة لجلوس الرجال في الشتاء، وهي تحفل بالفرش والسجاجيد التي تنقل لنا الصورة التي كانت عليها دور هذا العصر من الفخامة والثراء. فقد أسدلت على الشبابيك ستائر من القماش الهندي المطبوع على كل منها رسم محراب بداخله شجرة «سرو» مزهرة. كما نلاحظ بالجدار المواجه لمدخل القاعة، صفة رخامية من ثلاثة عقود، كانت معدة لوضع الطشت والأبريق الخاصين بالوضوء. ويتوسط الجزء المنخفض من القاعة، قرص رخامي من الألباستر الشفاف كان يستعمله صاحب الدار كمنضدة.

والإيوان البحري من القاعة، به دولاب تعلوه تجاويف في الجدران بداخلها بعض الأواني الزجاجية البيضاء المعتمة، وأمامه وضعت صينية بيضاوية الشكل من الألباستر.

ويزين هذا الإيوان مجموعة من الأطباق النحاسية منقوش عليها أساطير عن بيت الكريتلية والمنطقة التي حوله وبعضها لا يخلو من الطرافة.

ومن أهم قاعات بيت الكريتلية تطل قاعة الحريم وتطل على فناء الدار في مواجهة المقعد وكذلك على الواجهتين البحرية والغربية، وزخرفت هذه الغرفة من الخارج بالنوافذ والمشربيات الخشبية الجميلة، وحتى السقف لم يترك خاليا من الزخرفة. وقد حوت القاعة من مختلف التحف والمقتنيات ما يندر أن نجده مجتمعا في غرفة واحدة. ويتدلى من سقفها ثريا من النحاس، زخارفها مفرغة بعناصر نباتية وكتابات عربية قرآنية، وتحتوي هذه القاعة على مخبأ سري.

ومن أبرز غرف هذا المنزل الغرفة البيزنطية، وهي حجرة صغيرة مربعة، وسميت كذلك لأنها تحوي تحف بيزنطية وقبطية. وهذه الحجرة هي القنطرة التي تربط بين بيت الكريتلية وبيت آمنة بنت سالم. وكذلك الغرفة التركية وسميت بهذا الاسم لأن معظم أثاثها يرجع إلى القرن 19 م، وعلقت بها صور لبعض الأمراء المتشحين بالملابس المزركشة، كما عرضت بالحجرة مجموعتان من الأواني الزجاجية إحداهما زرقاء والأخرى خضراء اللون، وهما من الزجاج المموه بالمينا والذهب وقوام زخرفته عنصر هندسية منفذة بطريقة القطع من صناعة بوهيميا.

وفرشت أرضية الحجرة بكليم أوروبي كبير بوسطه باقة من الزهور متعددة الألوان تحيط بها مراوح نخيلية وزخارف نباتية.

وبجوار الغرفة التركية، توجد هذه الغرفة.. الملكة «آن». وسميت بهذا الاسم نسبة للملكة آن ستيوارت ملكة بريطانيا، وأول ما يلاحظه الزائر في هذه الحجرة غلبة الطابع الأوروبي على أثاثها. ويلفت النظر بها ثريا زجاجية بديعة الصنع تتدلى من السقف، وهي ملونة باللون الأحمر الياقوتي، كما نقشت عليها زخارف مذهبة على شكل سبع يقبض على سيف مسلول (الشعار الإيراني). كما يوجد في ركنين من أركان الحجرة دولابان على شكل عقد نصف دائري عرضت بهما مجموعات من الخزف التركي والصيفي. وتتميز الغرفة الدمشقية بجدران وسقف جلبت أخشابهما من أحد القصور القديمة بدمشق، ومما يزيد في قيمة هذه الأخشاب من الناحية الأثرية وجود تاريخ صنعها عليها وهو عام 1691م، وحفلت الكسوة الخشبية بالنقوش البارزة المذهبة والمتعددة الألوان. كما زينت الجدران من أعلى بأبيات من الشعر مكتوبة بحروف مذهبة، وكلها في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام.

أما قاعة الاحتفالات فتقع بالطابق الأول ويرتفع سقفها بارتفاع المنزل، وهي تنقسم إلى إيوانين كبيرين بينهما درقاعة أرضيتها من الرخام بوسطها نافورة من الفسيفساء الرخامية آية في دقة الصنع وجمال الزخرفة، فقد فرشت أرضيتهما بالأكلمة التركية التي تزدان بجامات مسدسه وزخارف هندسية متنوعة داخل أشرطة مختلفة بعضها ضيق والآخر عريض.