«ترعة المحمودية».. لوحة معجونة بهمسات العشاق

شقها محمد علي وشهدت معارك عرابي ضد الإنجليز

في بدايتها كانت ضفاف المحمودية مقصدا للأثرياء ووجهاء المجتمع، فقطنها الأمراء والبارونات والباشوات («الشرق الأوسط»)
TT

ارتبطت ترعة المحمودية بالتاريخ الحديث لمدينة الإسكندرية، وشكلت حجر الأساس لمشاريع محمد على باشا في تطوير المدينة، ضمن مشروعه الشامل القومي للنهضة المصرية، وحاليا تشكل الترعة محورا أساسيا لتطوير شبكة الطرق بالمدينة، كما تشمل مشاريع التطوير توسعة كورنيش الترعة، وإعادة الحياة إليه كمتنزه سياحي.

فمن خلال جزر النباتات التي تعلوها الجسور، ومراكب الصيد والسفن الشراعية القديمة تتراءى ترعة المحمودية كلوحة زيتية مرسومة بفرشاة فنان عاشق للطبيعة، حيث يجلس هواة صيد الأسماك، في استرخاء على شريطي الخضرة الممتدة لجمع حفنة من الأسماك، يجاورهم عشرات المحبين، يبذرون في ترابها براعم عشق لها رائحة الطفولة.

يقول عم سلامة (72 عاما) وهو يقود قاربه الصغير بمجدافه المتشقق وبنظرة متفحصة لصفحة الماء، يبحث عن رزقه اليومي من الأسماك، «أنا أعمل في الصيد لما كان عمري 12 سنة، كنت أنزل الترعة مع والدي من الفجرية نجمع اللي فيه النصيب ونروح، وأنا ساكن في بيت صغير عند محرم بيه على الترعة، وكنا واحنا صغيرين متعتنا اليومية اللعب على شط الترعة ونزول المياه.. لكن أنا لأني كبرت باشتغل شويه من الفجرية لحد الساعة واحدة الضهر وأروح أبيع شوية القراميط أو البلطي اللي باجيبهم في سوق السمك وبعدها أروح عالبيت، وبعد الضهر ممكن ألف شويه بالمركب، وأحيانا لما بيكون في ناس بتتمشى على الترعة بيطلبوا مني آخدهم لفة وأهو الواحد بيلقط رزقه والسلام».

أما أحمد عبد العال، موظف على المعاش، فيؤكد أن متعته اليومية هي الجلوس على أحد جانبي «المحمودية» والتأمل في هدوء وسكينة والاستمتاع بهواية الصيد، قائلا «أنا مش باصطاد كمية سمك كويسة بس المهم باقضي وقتي واتسلى وممكن آجي أقرا الجرايد خصوصا إن الحكومة عملت أماكن للقعدة بس للأسف ماحدش بيستغلها، والمكان سواء في الصبح أو بالليل مكان هادي بشكل خاص».

تملك هذه الترعة الساكنة تاريخا عريقا محفورا على ضفتيها وتحكيه أشجارها الظليلة. كتب عنها كبار المؤرخين مثل: الجبرتي، وعلي باشا مبارك، وأمين سامي، والرافعي، والروائي الإنجليزي فورستر، وغيرهم؛ فهي ترجع إلى عام 1817، حينما أمر والي مصر محمد علي باشا بشق ترعة تكون مصدرا للماء العذب ولتنشيط الملاحة النهرية الداخلية لخدمة التجارة، فرأى ضرورة وجود ممر مائي وأطلق عليه «المحمودية» تيمنا باسم الحاكم التركي السلطان محمود الثاني سلطان الأستانة، رغبة منه في التودد للإمبراطورية العثمانية.

تولى الإشراف على هذا المشروع الكبير المهندس الفرنسي مسيو «كوست»، وتبدأ المحمودية من النيل قرب قرية «العطف» لتصل مياه النيل للإسكندرية عبر البحيرة، وقد أصبحت ممرًا مائيًا للمراكب التجارية بين الإسكندرية والنيل. وكان محمد علي قد أمر كشافي البحيرة بجمع الأنفار، وتجهيز العمال، والبناءين، والحدادين، والمساحين، والفؤوس، والغلقان، والمقاطف، والعراجين، والسلب. وعمل في حفرها 360 ألف رجل وكانوا يسيرون مع كاشف كل منطقة بالطبل والزمور. وكان كل إقليم تمر به الترعة له حصة من الأقصاب ليحفرها، فإذا انتهى من الحفر يساعد الإقليم المجاور. وأثناء الحفر ظهر ببعض الأماكن مساكن مطمورة وقيعان وحمامات معقودة، ومظاريف بداخلها قطع نحاس قديمة وأخرى لم تفتح ولا يعلم ما فيها رفعوها لمحمد علي.

ويرجح المؤرخون والرحالة أن هذه الترعة تتبع نفس مسار القناة القديمة المتجهة إلى كانوبس، حيث اعتاد السكندريون أن يخرجوا في زوارق ليمتعوا أنفسهم ويقوموا بعبادة سيرابيس ـ الإله الذي أدخله بطليموس للتوحيد بين المصريين واليونانيين في العصر اليوناني. حلت الترعة محل ترعة الإسكندرية القديمة «خليج الأشرفية» التي كانت تمتد من فرع رشيد، بعد أن طمرتها الرمال. يقول أمين سامي في مذكراته لأحداث عام 1818 «في شهر شعبان من هذه السنة قوى اهتمام الباشا لحفر الترع الموصلة إلى الإسكندرية وأن يكون عرضها 10 قصبات والعمق 4 قصبات بحسب علو الأراضي وانخفاضها وتعين كشافو الأقاليم لجمع الرجال وفرضوا عددهم بحسب كثرة أهل القرية وقلتها وعلى كل عشرة أشخاص شخص كبير، وجمعت الغلقان ولكل غلق فأس وثلاثة رجال لخدمته وأعطوا كل شخص 15 قرشا ترحيلة وثلاثين قرشا ونصف القرش أجرته كل يوم، وكان ذلك وقت اشتغال الفلاحين بالحصاد والدراس وزراعة الذرة التي هي معظم قوتهم، وتعين جماعة من المهندسخانة ونزلوا مع كبيرهم لمساحتها وقياسها، فقاسوا من فم ترعة الأشرفية حيث الرحمانية إلى حد الحفر المراد بقرب عمود السواري بالإسكندرية فبلغ ذلك 36 قصبة، ثم قاسوا من أول الترعة القديمة المعروفة بالناصرية وابتدأوها من المكان المعروف بالعطف عند مدينة فوة». وافتتحت المحمودية في 24 يناير (كانون الثاني) عام 1820 في احتفال كبير حضره ابن محمد علي؛ القائد «إبراهيم باشا» وكبار رجال الدولة، وبلغ طولها حوالي 80 كيلومترا. أحيت المحمودية العديد من القرى وزادت مساحة المزروعات وزادت الحدائق في ضواحي المدينة وظهرت أحياء منها «محرم بك»، و«الرمل»، وانتشرت البساتين الخضراء في الإسكندرية، ومنها حدائق النزهة التي أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل.

وفى عام 1842 أقيم هويس عند فم الترعة في العطف تمكنت به السفن من السير طليقة، كما أقيم هويس آخر عند منفذ الترعة إلى البحر في ميناء الإسكندرية القديم. ورغم ذلك، تمثل المحمودية للمؤرخين إنجازا يخلو من الإنسانية ورمزا للسخرة والوحشية والقسوة فقد راح ضحيتها من الفلاحين حوالي 12 ألفا في 10 أشهر، نتيجة قلة الطعام والمؤن والتعنت في العمل، حيث كانوا يساقون للحفر من الفجر إلى الليل.

وفي بدايتها كانت ضفاف المحمودية مقصدا للأثرياء ووجهاء المجتمع، فقطنها الأمراء والبارونات والباشوات، أبرزهم أمير الإسكندرية عمر طوسون الذي أنشأ قصرا أمام عزبته، وبوغوص نوبار أول رئيس للنظار في مصر، ومحمد خورشيد باشا محافظ الإسكندرية، والبارون جون أنطونيادس الذي شيد قصرا وحدائق سميت باسمه وتتخذ من المحمودية خلفية لها. كما أقيم على المحمودية عدة جسور منها كوبري التاريخ بمنطقة مينا البصل، وقنطرة الباسل، وراغب باشا، وكوبري محرم بك، والنزهة وكوبري الناموس وجسر السكك الحديدية أعلى منطقة حجر النواتية.