كلية الفنون في سراييفو تستعرض حصادها الأول «قبسات من روحانية الإسلام»

إبراهيم كازوفيتش: كل لوحة لها قيمة روحية وجمالية بشكل متداخل يستنطق الجماد

لوحات الخط العربي ضمن معرض «قبسات من روحانية الإسلام» في سراييفو («الشرق الأوسط»)
TT

نظم طلبة من كلية الفنون بسراييفو تحت إشراف أساتذتهم أول معرض لهم، بالمركز الثقافي الإسلامي بسراييفو، بعد سنوات قضوها في دراسة فن الخط الإسلامي إلى جانب الفنون الأخرى مثل فن الابرو وفن الرسم الجداري والرسم الزيتي وغيره. وكان ذلك حدثا هاما استقطب عددا كبيرا من الزوار في مقدمتهم بعض المسؤولين السياسيين والدبلوماسيين ووسائل الإعلام. حيث عبروا جميعا عن إعجابهم بالمستوى الرفيع الذي بلغه الجيل الجديد في إتقان فن الخط العربي خصوصا وفن الرسم عموما.

وقال الدكتور عدنان شوركوفوتش الذي أشرف على تنظيم المعرض لـ«الشرق الأوسط»: «في البداية أريد الإشارة إلى أنني أتيت للمعرض بطلب من الخطاطين الذين هم فنانون في الوقت نفسه، وقد فوجئت بالمستوى الجيد لهؤلاء الشبان الذين ينتظرهم مستقبل واعد، فهم من سيحملون المشعل للأجيال القادمة في المستقبل» وعن فكرة تنظيم المعرض قال: «هذه الفكرة راودتنا منذ فترة طويلة، وبحمد الله حصلنا على مكان مميز لإقامة المعرض الذي يستمر لمدة 20 يوما، وقد اخترنا أحسن الأعمال واسم المعرض، ونحن ممتنون للإقبال الكبير الذي لقيه من قبل الزوار على مختلف مواقعهم». وأكد شوركوفيتش أن المعرض يقام لأول مرة بصفته باكورة حصاد كلية الفنون بسراييفو. كما سيكون هناك معارض أخرى في مدن البوسنة ودول البلقان ولا سيما دول الجوار وكذلك تركيا ولما لا؟ ودول إسلامية أخرى أو حتى غير إسلامية. وأثنى الدكتور عدنان شوركوفيتش على الخطاطين والفنانين المشاركين في المعرض «هم رسامون أكاديميون وقد قمنا بتأسيس جمعية الخطاطين والفنانين الإسلاميين لإحياء ما درس من الفن الإسلامي في البلقان» وأضاف: «الفن الإسلامي في المائة سنة الأخيرة تعرض للإهمال الشديد، وهذه خطوة أولى على طريق إحيائه من جديد إلى جانب إحياء الكثير من مظاهر ومعالم الهوية الإسلامية للمنطقة، وصون ما بقي منها ووجود هذه الكوكبة من الشباب يؤذن بنجاح المشروع بعون الله تعالى».

وقال البروفسور إبراهيم كازوفيتش، أستاذ تاريخ الفنون بأكاديمية الفنون بسراييفو لـ«الشرق الأوسط»: «لدينا ثلاثة أصناف نعمل عليها، وهي الخط العربي الجميل، وفن الابرو، والغرافيك، وهذه الأنواع الثلاثة موجودة في منطقتنا منذ عدة قرون ولا سيما في العهد العثماني، حيث كان الخط العربي، بل اللغة العربية رائجة، ولدينا أدلة على بروز فنانين كبار وممتازين جدا، حتى أن بعضهم قضوا سنوات طويلة من حياتهم في قصور السلاطين العثمانيين الذين كانوا مهتمين ومولعين بفن الخط في اسطنبول وغيرها». وعن مدى تأثر الفن الإسلامي بالأصول العثمانية أفاد «تأثير العثمانيين في الفن الإسلامي واضح جدا، وخاصة في مجال الخط العربي». لكن ذلك الزمن الجميل، وتلك الحقبة الذهبية من تاريخ البلقان، تعرضت لانتكاسة بعد انحسار ظل الخلافة العثمانية في البلقان وغيره من المناطق في القوقاز والشرق عموما، فقد احتلت النمسا البوسنة وعملت على تغيير الحروف العربية التي استبدلت بالحروف اللاتينية، وانحسر تأثير العربية في حيز ضيق وهو التعليم الديني البحت، ثم انحسر أكثر في دائرة المتخصصين في اللغة العربية، والتي بدأت تزاحمها لغات أخرى وافدة جاءت مع المحتل النمساوي وفي مقدمتها الألمانية والإنجليزية والفرنسية. ولا تزال آثار الحقبة العثمانية ماثلة للعيان حتى اليوم، حيث لا تزال لوحات المساجد مكتوبة باللغة العربية، وكذلك واجهات بعض المدارس في سراييفو وتوزلا وموستار وسكوبيا وتيرانا وغيرها. وكذلك في شواهد القبور، وغير ذلك. واستمرت مجزرة العربية بعد تغير الحروف العربية بالحروف اللاتينية في تركيا ذاتها على يد الذئب الأغبر، (بتعبير الشهيد الدكتور عبد الله عزام) كمال أتاتورك. ولولا الروحانية الإسلامية والعلاقة المتينة بين الإسلام والعربية في عقول وقلوب ووجدان المسلمين في البلقان، لأصبحت تلك العظمة أثرا بعد عين. وفي هذا الخصوص يشير الدكتور كازوفيتش إلى أن الخط العربي والفن الإسلامي عموما ظل محافظا عليه «رغم كل ذلك كان باستطاعتك رؤية أعمال الفنانين الخطاطين والفنانين المسلمين في البيوت وفي المساجد وفي أماكن تجمع المسلمين وأسواقهم فقد ظل المسلمون مهتمين بالإبداع في مجال الخط العربي». ويبدو ذلك بوضوح في أعمال محمود مؤذنوفيتش الذي ألف كتابا عن تاريخ الفن الإسلامي وضمنه المساجد والحنفيات والأسبلة التي كانت في العهد العثماني ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا. ورغم أن الأغلبية الساحقة من الناس في البلقان ولا سيما في الوقت الراهن لا تجيد العربية، ولا تفهم ما هو مكتوب في اللوحات التي تضم آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فإن الناس يقبلون على اقتنائها وتعليقها على جدران منازلهم، فهي ذات أبعاد ومعان روحية أكثر من أي شيء آخر. وقد كتب مؤذنوفيتش ثلاثة مجلدات أحصى فيها معالم الفن الإسلامي، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم كازوفيتش، في هذا الحوار. بعد انهيار يوغسلافيا، وتحرر شعوب المنطقة من القبضة الشيوعية البغيضة، سارع أهل الاختصاص لإعادة الفن الإسلامي إلى عهده الزاهر من خلال فتح قسم للخط العربي في كلية الفنون إلى جانب فن الابرو، والغرافيك. وهو قسم كما يقول الدكتور إبراهيم من أولوياته إحياء الفنون الإسلامية من جديد ولا سيما فن الخط العربي، من الناحية التاريخية والعملية على حد سواء.

وليست كلية الفنون في سراييفو وحدها من تقوم بهذا العمل التاريخي والمستقبلي الكبير والمقدر، وإنما كلية الدراسات الإسلامية، وكلية الفلسفة أيضا، وقسم الاستشراق. وهو ربط أكاديمي بين تاريخ الثقافة والروحانية الإسلامية والفن، يتطلع لتطبيع ذلك نخبويا وشعبيا. ويعتبر المعرض المشار إليه «نتيجة العمل الذي قمنا به والجهد الذي بذل في هذا السبيل» كما يؤكد الدكتور إبراهيم كازوفيتش. وعن مستقبل الخط العربي، والفن الإسلامي عموما قال الدكتور إبراهيم «على حسب استقرائنا ومعايشتنا للواقع نلحظ أن هناك اهتماما كبيرا بالخط العربي يزداد يوما بعد يوم، ليس لدى المسلمين فحسب بل لدى غيرهم من أبناء النحل الأخرى» وتابع «إذا كان المسلمون ينظرون للوحة لما فيها من إيحاءات جمالية وروحانية فإن الآخرين ينظرون إليها في شكلها الجمالي، كما ينظرون لأي لوحة تحمل خطوطا انسيابية ومتعرجة. فكل لوحة لها قيمة روحية وجمالية بشكل متداخل جدا يستنطق الجماد». بيد أن الناس لم يعودوا يكتفون بشراء اللوحات كما كان في السابق، بل أصبحوا يسألون عن فحواها وما تقوله كلماتها النورانية، وهو ما جعل الإقبال على اقتناء هذه اللوحات يزداد وينمو مع الأيام. ووصف الدكتور إبراهيم الأعمال التي تم عرضها بأنها «تستحق الدعم.. والمشاركون الشباب فيه يجيدون عملهم بشكل ممتاز فقد تعلموا أكاديميا كما تعلموا بالممارسة ولديهم طموح للوصول إلى درجة العالمية ومستوى الفنانين التاريخيين» ولم يخف الدكتور إبراهيم تأثر الخطاطين والفنانين الشباب المشاركين في المعرض بأعمال غيرهم «لا شك أنهم في مرحلة بين التقليد والإبداع والتميز وعندما يصلون إلى المراتب العليا، وهم قادرون على ذلك، سيبدأون عملهم الخاص وتكون لهم بصماتهم الخاصة».

الخطاط والفنان الشاب ألن كوهيتش قال لـ«الشرق الأوسط»: «نحن فخورون جدا بإقامة هذا المعرض الكبير، وهو أول معرض لنا، وهذا يعني الكثير، والآن تختلج بداخلي مشاعر فياضة تزيد من طموحاتي المستقبلية، رغم وجود توجس من ردة فعل الزوار، أما أساتذتنا فقد قالوا رأيهم وهو محل اعتزاز بالنسبة لنا». وتابع «كل ما نحتاجه تم توفيره، المكان، ومن يقيمون الأعمال والجمهور، وأستطيع القول إن ما قمنا به هو تتويج لسنوات قضيناها في احتراف الفن الإسلامي والفن عموما أكاديميا» وأضاف: «لقد نقلنا مشاعرنا على الورق وهي الآن ملك للجمهور، ونحن نعتقد بأن ما تم انجازه كبير وسيكون مصدر إلهام لنا في المستقبل».