مواقف رمضانية تجدد كوميديا الموقف

البعض يعتبرها فلكلورا خاصاً

لا تخلو بعض طرائف الصيام من فوائد، فالبعض يستثمر ما فيها من دعابة ويحولها إلى طاقة لترويض الجوع والعطش («الشرق الاوسط»)
TT

دخل حمدي على زملائه المحررين بالصحيفة، وهو يضرب كفا بكف، ويتمتم بعبارات مبتورة غامضة، وحين همّ أحد الزملاء بمحادثته، والاطمئنان على صحته وقواه العقلية، رد عليه بعصبية: «يا أخي أنا لست مجنونا، لكنني كل يوم ومنذ أول رمضان أقع في الخطأ نفسه، أنسى في أي مكان ركنت سيارتي، أمس ظللت أبحث عنها لنصف الساعة، لا أعرف هل ركنتها في شارع عدن، أو في سورية، أو في طهران، أو تركتها بعيدا منزوية في إحدى الحواري، حتى خيّل إلي أنها سرقت، وبعد كل هذا اللف والدوران، اكتشفت أنني ركنتها تحت شجرة عتيقة بالقرب من الميدان».

وبحركة عصبية قال حمدي، وهو أحد المدخنين العتاة ومن أصحاب «المزاج» العالي: «أنا مش هشتغل اليوم، أنا كلي متلخبط، مش عارف إيه الفرق.. النهارده زي امبارح زي بكره.. أنا سأغادر إلى البيت، سأنام لحد الإفطار والبركة فيكم أنتم».

في أول يوم من رمضان ـ وكما يروي أحمد، أحد أصدقائه ـ أضاع حمدي هاتفه الجوال على هامش مهمة صحافية كان عليه أن ينجزها صباحا، وحين وصل إلى العمل اكتشف أن الكاميرا الديجيتال الحديثة، معشوقته الأثيرة، غادرت هي الأخرى موقعها في الحقيبة بلا رجعة.. ساعتها علق حمدي بروحه المرحة: «من أولها، هل هلالك، شهر مبارك.. رمضان كريم».

بالطبع لا يسخر حمدي من الشهر الفضيل، فهو يحتفي به كطقس اجتماعي جميل، يتضافر فيه الإحساس بالتكافل والتواد والتراحم، ومن أشد الذكريات الرمضانية التي لا ينساها حمدي، يوم نسي والدته في الباص العام، كان يوما مشهودا لا ينسى، وكما يقول: «كنا في وقت الظهيرة من رمضان، وكنت أرافق والدتي إلى الطبيب بميدان رمسيس، لكنني سرحت فجأة وشرد ذهني تحت وطأة العطش والجوع، وما إن رأيت بعض أصدقائي بميدان التحرير حتى قفزت بسرعة، من دون أن أدري، من الباص، تاركا والدتي تذهب وحدها، الطامة الكبرى أنني نسيتها، ولم أتذكر ذلك إلا بعد نحو الساعة من اللهو والمرح مع أصدقائي.. يا الله، أنا مجنون نسيت أمي في الباص».

لخبطة حمدي وتخاريفه الصيامية في عرف صديقه أحمد شيء طبيعي، نظرا لأنه مدخن شرس، ومن دون سيجارة وفنجان قهوة يختل ميزان الأمور في يديه. ويذكر أحمد أنه في رمضان الماضي، وبعد صلاة الظهر معا في رحاب مسجد الأزهر الشريف، وقبل بضع خطوات من وصولهما إلى بيت حمدي اكتشف أن الحذاء الذي يرتديه ليس حذاءه، وأنه بدّله في المسجد بآخر من نفس المقاس. المدهش في الأمر أن حذاء حمدي كان بنيا فاتحا، أما الآخر الذي ارتداه بالخطأ فكان أسود وبرباط.

أما أحمد حين أسأله، لكن أنت، ألم تمر ببعض من هذه التخاريف؟ لا يكف عن الضحك، ويقول: «تخاريف الصيام يبدو أنها لازمة من لوزام الشهر الكريم، فأمس طلبت مني زوجتي بعض الأشياء من السوبر ماركت، وشددت علي أن أدوّنها حتى لا أنسى، وقبل الإفطار بنحو ساعة مررت على السوبر ماركت، وأحضرت كل ما طلبته زوجتي، لكن على طريقتي الخاصة جدا، ومن ثم، صار الملح سكرا، والبن شايا، والزيت عسلا، والكرنب قطايف وكنافة.. وهلم جرا. طبعا دب خلاف منزلي، لكن لولا رمضان وحكمة الصوم، لكنا تناولنا الإفطار عند المأذون».

لا تخلو تخاريف الصيام من فوائد، فالبعض يستثمر ما يفيض عنه من ملاحة وطرافة ويحولها إلى طاقة لترويض الجوع والعطش، وتسلية النفس بإشاعة جو من المرح والفكاهة، فأصعب شيء في رمضان، حسب ما تروي سعاد، موظفة بأحد البنوك: «هو النظر إلى الساعة، فعقرباها يبدوان ثقيلين جدا ويتحركان ببطء مميت، ويظل هذا الإحساس قائما، حتى قبل دقائق من مدفع الإفطار». وبرغم عدم استمتاعها بها نظرا لطبيعة عملها التي تتطلب الدقة واليقظة التامة، لا تخفي سعاد تعاطفها مع تخاريف رمضان، وتشبهها بالفولكلور التلقائي، كما أن بها طرفا من الفن ولماحية الخيال، ففي جو هذه التخاريف كثيرا ما يضل السلوك المعتاد ـ برغم بساطته ـ مساره الواقعي المعروف، وقد ينقلب الجد إلى الهزل، والعكس بالعكس أيضا، فمع الإحساس الشديد بالعطش والجوع، يصبح التندر والمزاح، حالة مزاجية لنسيان هذا الإحساس، ويتبارى البعض في نحت القفشة والنكتة للتسلية والترويح عن النفس.. وعن ذكرياتها مع هذا الجو تقول سعاد: «قبل يومين أحسست بصداع طويل وهزال في جسمي، ونمت من دون أن أتناول وجبة السحور، وكان يوما طويلا وشاقا في العمل، وانصرفت في وقت متأخر جدا. وعلى بعد خطوات من باب العمارة داهمني مدفع الإفطار، هرولت بسرعة حتى أستطيع الإفطار مع أسرتي، وبتوتر شديد ضغطت على جرس الباب، وكانت المفاجأة أن السيدة التي فتحت لي الباب كانت جارتنا بالطابق الأسفل، اندهشت واعتذرت، وشكرتها على كرمها، ولا أدري كيف صعدت ولحقت بطقس الإفطار مع أسرتي».

إلى حد كبير تشبه هذه التخاريف كوميديا الموقف، بل تتفوق عليها في أحيان كثيرة، نظرا لكونها حارة نابعة للتو من قلب الحدث والمشهد. يؤكد على هذا القاص الروائي على عيد، مشيرا إلى أن «الصمت والهمس، وعدم ارتفاع الصوت، من النعم والسمات الأساسية لوقار رمضان، وهذا أمر مريح للأعصاب جدا، لكن قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فذات يوم رمضاني، كنت ذاهبا للإفطار عند ابنتي الكبرى في التجمع الخامس بمنطقة القاهرة الجديدة، وبعد أن أعددت العدة، واشتريت بعض الهدايا لأحفادي الصغار من وسط البلد، وحتى أستريح قليلا جلست على كرسي بإحدى الحدائق، قبل أن أهم بالذهاب إليهم. للحظات لفحني الرذاذ الرمضاني الجميل، ثم فجأة، ومن دون أن أدري، نهضت من جلستي وهرولت في الشارع وأنا أصرخ كالمعتوه: من فضلك يا أستاذ هو انت.. مش عارفني.. وإذا بالرجل بعد برهة من الصمت، يأخذني بالأحضان، ويعلو صوته الأجش الرخو: والله زمان يا أبو علي، فينك يا راجل، 15 سنة، ولا حس ولا خبر، أنا أسعد واحد في الكون الآن، أخيرا قابلت أعز أصدقائي.. يا لها من صدفة لا تتكرر».

يتابع على عيد وأنامله تتحسس حبّات المسبحة السوداء: «امتد حبل الدردشة والكلام، ولا أعرف كيف قادتنا خطواتنا إلى حي الحسين، ودلفنا إلى مطعمنا الأثير، صاحب الذكريات، وليالي الأنس والفرفشة، وكلمة من هنا، وذكرى من هناك، وضحكة، طالما افتقدناها أنا وصديقي حسين المحامي، (الذي لا يخشى في الحق لومة لائم)، كما يحب أن يعرِّف نفسه دائما، وضرب مدفع الإفطار، وتناولنا ألذ وأشهى طعام، وفي المقهى المجاور، سألني حسين: لمن هذه الهدايا يا أبو علي.. يا نهار زي الفل، كده يا راجل خلتني أنسى ابنتي. ولما رويت له الحكاية، كاد يقع على قفاه من الضحك، وأشهر في وجهي هاتفه الجوال وهو يبتسم: اتفضل كلّمها واعتذر لها، وقول لها عم حسين بتاع البالون بيسلِّم عليك.. رمضان كريم يا أبو علي».