الشريعة الإسلامية تستوعب مواهب الناس

TT

كل من عنده موهبة فإن الإسلام يستوعب هذه الموهبة ويوظفها التوظيف المناسب في النفع العام؛ لأن الناس مواهب وقدرات واستعدادات قال تعالى: «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ»، وقال تعالى: «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ». ولهذا لما بعث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أعطى لكل صحابي من صحابته مجاله الذي يناسبه وبابه الذي يحسن فيه، فأبو بكر للخلافة بعده، وعمر للقوة في الحق، وعثمان للحياة والجود، وعلي للقضاء والشجاعة، ومعاذ لعلم الحلال والحرام، وزيد بن ثابت للفرائض، وابن عباس للتفسير، وحسان بن ثابت للشِّعر، وثابت بن قيس للخطابة، وأبي بن كعب للقرآن، وهكذا.

فمن رحابة الشريعة وسعتها ومواكبتها لأحوال الناس وصفاتهم وتغير الأزمنة واختلاف الظروف أن جاءت تشجع كل صاحب موهبة نافعة من عالم وقاضٍ وداعية وخطيب وشاعر وحاكم وجندي وطبيب ومهندس ونجار وخياط ومزارع وبنّاء، إلى غير ذلك من أصناف البشر، وجعلت الشريعة لكل صنف من هذه الأصناف أحكاما محددة وآدابا مقننة وحقوقا وواجبات، فمثلا باب القضاء في الإسلام له كتب مؤلفة في أحكام القضاء وآداب القاضي وكل ما يلزم وما له وما عليه، ومثله أحكام الطب؛ فللطبيب منهج في الإسلام، وألّفت في ذلك كتب توضح للطبيب منهجه في الحياة وما يجب عليه وما يستحقه. وكذلك المجاهد له أحكام في باب الجهاد؛ متى يجاهد وكيف يجاهد وما أحكام الجهاد وواجباته وآدابه حتى وجدت في هذا الباب وحده مجلدات، فأي شريعة أوسع وأرحم من هذه الشريعة الربانية؟

ومن عنده شك في ذلك فليذكر لنا موهبة أو تخصصا أو علما أو فنا لم تأتِ الشريعة بالحديث عنه والإجابة عن كل تساؤل حوله. وحتى إن في كتب الفقهاء أبوابا تخص الحدادين والنجارين والخياطين والرعاة والفلاحين وحتى الباعة في بضائع ليست مشهورة وأحكام الملاحة في البحر وجزئيات الطب كالفصد والحجامة والكي، تلك الجزيئات والفرعيات كلها قد أتت الشريعة بشرح أبوابها وتوضيح فصولها لتبقى هذه الشريعة على طول الآباد والآماد إلى يوم المعاد صالحة للعباد والبلاد، بل تعجب وأنت تدرس علم الحيوان فتجد أحكام الحيوانات والطيور وما يحل وما يحرم مع الحديث عن كل فصيلة ومع ذكر آداب التعامل مع الحيوان من الرفق والرحمة وآداب الصيد والذبح والحمل على الحيوان وما يُركب منها، وأحكام النافر الشارد كل ذلك في أصول من الأدلة في الكتاب والسنة، وصدق الله تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ». وليت العلماء يشرحون للعالم محاسن هذا الدين ومكارمه.

وقد علمنا أن كثيرا من الفلاسفة والمفكرين لما اطلعوا على بعض هذه المحاسن دخلوا في الإسلام، ومقصودي من هذا أنه أيّا كانت موهبتك أو عملك أو حرفتك فإنك سوف تجد في الإسلام مجالا لك ومكانا يناسبك في العلوم والفنون والآداب وسائر التخصصات، بل حتى الأمور الطارئة على الإنسان في حياته كالفقر والغنى والصحة والمرض والإقامة والسفر والسلم والحرب والربا والغصب، لها أحكام مبينة وآداب محددة، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد هذه الشريعة؟ «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ».

وإنني ناصح لكل من أراد النجاح والفوز والفلاح والسعادة أن يطالع بتمعن وأن يقرأ بفهم في نصوص الكتاب والسنة ودواوين الإسلام ليزداد علما وفقها وحبا وتعلقا بهذه الشريعة الحنيفية السمحة المباركة الربانية: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»، فهنيئا لمن أقبل على الوحي كتابا وسنة وتأنق في رياضه وسرح النظر في خمائله وسيّر الطرف في حدائقه وتنعم بالعيش في كنفه وتلذذ بجمالياته واستمتع بالجواهر الغالية والدرر الثمينة والتحف النفيسة المستخرجة من كنوز الوحي، وهذا هو ـ والله ـ الشرف العظيم والنهج القويم والصراط المستقيم.