بيروت.. موقف كبير للسيارات

عدد ضحايا الطرق أكبر من عدد ضحايا جرائم القتل

أزمة السير في العاصمة اللبنانية مزمنة وتبدأ من الصباح الباكر («الشرق الأوسط»)
TT

«إذا جلست على شرفة عالية في أحد مباني بيروت الشاهقة لوجدت نفسك أمام موقف كبير للسيارات». و«إذا قمت بنزهة خارج المدينة للترويح عن النفس فلا تعرف إذا ما كنت ستعود مقطوع النفس»، و«إذا ضربت موعدا لصديق داخل العاصمة لوجب عليك أن تنطلق من بيتك قبل ساعات وإلا حرمت اللقاء». و«إذا قمت باستقلال سيارة الأجرة (المعروفة في لبنان بسيارة السرفيس) فلا تضمن الوصول إلى مقصدك سليما معافى».

هذه العبارات تسمعها من أي مواطن لبناني يضطره عمله للتنقل يوميا داخل العاصمة وخارجها، حتى إن أحدهم أطلق على قطاع السير في لبنان بأنه «عصفورية»، أي مستشفى «مجانين»، بكل ما للكلمة من معنى. وهذا الاسم الشعبي كان يطلق في الماضي على مستشفى الأمراض العصبية والعقلية، في ضاحية العصفورية، شرقي بيروت. وللتعبير عن هذه «العصفورية» يكفي أن نروي مجريات يوم كامل من قيادة السيارة في الشوارع اللبنانية. فما أن يخرج اللبناني من بيته صباحا لينتقل إلى مقر عمله، يتبادر إلى ذهنه «الحمدلة» لأن سيارته لم تُسرق جزئيا أو كليا حتى لا يضطر لدفع أكثر من نصف ثمنها لمافيا السيارات. ولا بد من أن يحسب حساب زحمة السير فينطلق في ساعة مبكرة، ومهما بكّر، فلا بد من أن يصطدم بالزحف البطيء بدلا من السير الطبيعي، ولا ينفع دائما التحايل على الزحمة من خلال سلوك الزواريب الضيقة، لأنه سيجد أن كثيرين سبقوه إلى هذه «الحيلة». طبعا تبدأ الأعصاب بالرقص وتزيدها رقصا الأبواق الزاعقة يمينا ويسارا، والويل للمرضى الذين تنقلهم سيارات الإسعاف لأنهم قد يلقون حتفهم قبل بلوغ المستشفى.

وإذا ما حاول سائق السيارة أن يهدئ أعصابه، فلا بد من أن تهزه أصوات العوادم المقرقعة، «وتشفيط» (تفحيط) المراهقين يمينا ويسارا، والضباب الأسود الذي تطلقه الحافلات والشاحنات والسيارات الفاقدة كل الضوابط. وقد يصيبه البعض بقشر اللوز الذي يرميه من نافذة سيارته أو بقشر الموز، فضلا عن المناديل الورقية التي «تزين» جوانب الطرق والأرصفة. وقبل أن يصل إلى مركز عمله لا بد من أن يمر على مفترقات عدة، فطورا يمر على إشارة سير «شغالة» ويهز رأسه لما يرتكب بحقها من مخالفات، وتارة بشرطي أو دركي يعرقل السير أكثر مما يسهله، هذا إذا لم يكن يدخن سيجارة في ركن منزو من الشارع ليترك حركة السيارات على غاربها. وفي حال آثر أحدهم الإبقاء على سيارته في المرآب المنزلي، والانتقال إلى مركز العمل بسيارة الأجرة، فهنا المهازل والارتكابات. النائب المهندس محمد قباني، رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل النيابية، يقول إن «تطبيق قانون السير في لبنان ليس فيه شيء من الجدية أو الاستمرارية أو الفعالية أو الإنصاف. وخير دليل على ذلك موضوع استعمال حزام الأمان الذي بلغ نسبة 80% عندما فرض وزير الداخلية زياد بارود هذا الاستعمال ولكن هذه النسبة تدنت إلى حدود 10% عندما تراخت الرقابة على التزام القانون». وإلى جانب الاستخفاف باستعمال حزام الأمان هناك إهمال كامل لإصدار قرار بمنع التدخين في سيارات الأجرة، فالسائق قد لا يطفئ سيجارته وكثيرون من الركاب لا يتذكرون السيجارة إلا عندما يستقلون سيارة الأجرة، ولا يهمّ إذا كان من يجلس إلى جانبهم مصابا بالتهاب رئوي أو خارجا من مستشفى. وفوق كل ذلك لا ينفك السائق يطلق بوقه الذي لا يتوقف عن الزعيق ويشكل مع زعيق الأبواق الأخرى «سيمفونية» راعبة على مسرح «العصفورية». ثم لا ننسى أن 60% من سيارات الأجرة أشبه بالطنابر (الحنطور) وتكاد لا تصلح إلا للخردة، وهذا ما يكشفه التهرب من الضمان الإلزامي للسيارات، وعدد الحوادث والضحايا. وهنا يقول الأمين العام لجمعية «يازا» المتخصصة في التوعية في قطاع السير زياد عقل: «في عام 2007 على سبيل المثال خسر لبنان 870 شخصا نتيجة حوادث السير، 70% منهم من الشباب، بسبب الإدمان على السرعة وفي غياب الإجراءات الرادعة وتقنيات الرقابة المفقودة، يضاف إلى ذلك 11400 جريح. ولا شك في أن هذه الأرقام ارتفعت في عامي 2008 و2009 نتيجة ارتفاع عدد السيارات الذي ناهز مليونا ونصف المليون في مقابل 55 ألف سيارة في عام 1960». ويضيف عقل معلقا أن «عدد ضحايا السير فاق عدد ضحايا جرائم القتل».

وتكبر المصيبة إذا أراد اللبناني الانتقال إلى مركز عمله أو أي مكان آخر بواسطة الحافلات الكبيرة والصغيرة، التابع منها للنقل العام أو النقل الخاص. فإذا ما اختار الفئة الأولى توجب عليه الانتظار ساعات موعد وصول الحافلة، وهذا يعني إهدار نصف نهار في رحلة واحدة. ولكن لئن كان النقل الخاص أسرع فإن ما يجمع بينهما هي المقاعد الممزقة، والكتابات السياسية والبذيئة المنتشرة على جدران الحافلة أو جدران المقاعد الخلفية، وكذلك روائح التبغ وزحمة الركاب وأصوات الإذاعات التي تشق عنان السماء. وعليه، يشير عضو «يازا» لحود لحود، إلى أن «أقل من 30% من اللبنانيين يستخدمون النقل العام، أولا لأنه بطيء، وثانيا لأنه لا يتمتع بأي من شروط النظافة البصرية واللمسية والشمية، وثالثا لأنه يفتقر إلى مواقف انتظار لائقة على طول خط السير، ولعل هذا كله هو ما عزز انتشار السيارات الخاصة».