«زحمة» القاهرة تغير مفردات الحب والحياة

بسببها تحولت محطات المترو والأتوبيس إلى أماكن للقاء

ارتفع عدد السيارات المتحركة في القاهرة إلى ما يقرب من 2.5 مليون سيارة رغم أن الطرق لا تتحمل سوى 400 ألف سيارة («الشرق الاوسط»)
TT

«ساكن في حيّ السيدة وحبيبي ساكن في الحسين.. وعشان انول كل الرضا.. يوماتي اروح لُه مرّتين».. هكذا غنى محمد عبد المطلب قديما واصفا طريقه السعيد بين حي السيدة زينب وحي الحسين، وهي مسافة قريبة للغاية تسمح لمن يرتادها أن يكرر زياراته مرات كثيرة في اليوم الواحد، لكن مشوار عبد المطلب العاشق ليس كأي مشوار، فمناجاته وولعه بذكريات محبوبته أطالا الطريق فعجز عن تكرار المشوار بأكثر من مرتين.

ذهب عبد المطلب ومعه زمنه الهادئ، وتغيرت مفردات حبه بتغير القاهرة وزيادة معدلات زحامها وتلوثها وضجيجها، وما كان يتعفف عن ارتياده لأكثر من مرتين يوميا، يعجز اليوم أي محب جديد على تكراره مرتين في الأسبوع.

«خنقة» القاهرة، التي غيرت الحب والحياة في تلك المدينة العتيقة، تتجلى ملامحها في مؤشرات مزعجة، منها مثلا ارتفاع عدد السيارات المتحركة في القاهرة إلى ما يقرب من 2.5 مليون سيارة، رغم أن الطرق لا تتحمل سوى 400 ألف سيارة، ورغم ضآلة الرقم بجانب عواصم أخرى مثل لندن وطوكيو، فإن الفوضى المرورية وإشغالات الطرق أبطأ من معدل سرعة السيارات الذي يبلغ حاليا 19 كيلومترا في الساعة، ومن المتوقع أن تتراجع إلى 6.11 كيلومتر في الساعة عام 2022، بحسب دراسة للحكومة المصرية بالتعاون مع بيت خبرة أجنبي. فإذا أضفنا إلى الزحام والتباطؤ جرعات من التلوث السمعي والهوائي، شكلت 10 أضعاف المعدل العالمي المسموح به، يكون تسكع العشاق في طرقاتها بالصورة التقليدية نوعا من الهزل أو بالأحرى الانتحار البطيء.

لكن محمد، وهو مهندس شاب ارتبط بزوجته بعد قصة حب عنيفة خلال سنوات الدراسة بجامعة القاهرة، استطاع تكييف «الخنقة» القاهرية وحوّلها إلى وقود يومي للحب، فيقول: «كنت أخرج يوميا في الخامسة مساء، وأسير برفقة حبيبتي حتى ميدان التحرير للبحث عن مواصلات ملائمة كي تقلّنا إلى منطقة الأهرام حيث نسكن، وبعد فشلنا نعود مرة أخرى إلى ميدان الجيزة، وتمتد الرحلة لأكثر من ساعتين، ونحن نعلم مسبقا بمصيرها لكن نتحجج بها لنقضي أطول فترة ممكنة، ثم أعود إلى بيتي وهيئتي متربة وأقرب إلى عمال رصف الطرق».

«خنقة» القاهرة، وهي ناتج غير شرعي لصداقة التلوث مع الزحام والضجيج، غيرت كثيرا من خارطة الحب وجغرافيته، بل ولغته أيضا، فتحولت محطات المترو ومحطات الأتوبيس إلى أماكن للمواعدة، حيث يلتقي الحبيبان ثم يمكثان للحظات، وبعدها يكملان مسيرتهما وسط حشود ركاب المترو أو بين صفوف الأتوبيس، فتختفي كلمات الغزل تدريجيا وسط صياح العائدين إلى منازلهم، ويكتفيان بلغة العيون المرهقة، وهنا يصبح المقعد الشاغر أفضل هدية يقدمها الحبيب لحبيبته، لا تلبث أن تشكره عليها برسالة من هاتفها الجوال، يعيد قراءتها من حين إلى آخر.

كنوع من التعايش، يصادق العشاق «خنقة» القاهرة، خصوصا في أوقاتها الحرجة الممتدة من الصباح حتى منتصف الليل في كثير من الأحيان، يقللون من الكلام، ويرتادون المواصلات، ويتواعدون على الكباري، مثلما يفعل هشام، المحلل المالي بإحدى شركات تداول الأوراق المالية، فهو ينتهي من عمله في الخامسة، ولا يجد وقتا ملائما لتبادل الحديث مع خطيبته طبيبة الأسنان التي تعمل قرب شركته بوسط القاهرة إلا سويعات قليلة، يختطفها من بين براثن كوبري قصر النيل التاريخي على نهر القاهرة الخالد، هناك يوجهان نظريهما إلى النيل ويتناجيان، ينعشهما النسيم ويرطب مشاعرهما المضغوطة بضغط العمل، قبل أن يواصلا الحديث وسط «تكتكات» المترو في الطريق إلى منزليهما بمنطقة الزيتون بشرق القاهرة.

ومع ضيق فضاء القاهرة بمشاعر الحب النضرة، التي لا تزال كاليرقات الصغيرة، تحتاج إلى من يرعاها ويكبرها، لا تجدي طرقات كورنيش النيل ولا محطات المترو مع عماد، وهو كيميائي بإحدى شركات البترول الواقعة في محافظة السويس بشرق مصر، فقد ارتبط بخطيبته حديثا، عبر ما يعرف بزواج الصالونات، رشحها له زميل له في العمل، فهي أخت زوجته، وشاهدها وحدث ما يسميه المصريون «النصيب». جدران الصالونات وتحفظ الرسميات بنيا أمامه سدا منيعا حجبه عن معرفة صفاتها وملامح شخصيتها، طلب الخروج معها بعد إعلان الخطبة، اشترط والدها أن تخرج معهما شقيقتها، اعتاد على اختيار أماكن بعينها تنأى بنفسها عن «الخنقة»، مثل حديقة الأزهر ببحيراتها الهادئة، أو أحد المطاعم المحتضنة لنيل القاهرة. وكنوع من التغيير يحرص من آن إلى آخر على الجلوس في مركب نيلي يتهادى بهم وسط الأمواج، عندئذ ينساب الكلام من شفتيه، ويخرج من رحلته النيلية كائنا مفعما بالسعادة، لكن بمجرد بلوغه الشط واستعداده لتوقيف التاكسي لتوصيل خطيبته وأختها تعود تكشيرته إلى وجهه فور بدء عراكه مع أفواج السيارات المكدسة قرب ميدان عبد المنعم رياض بوسط القاهرة، وقتها ينسى ما قاله في النيل، ولا يستمع إلى صوتها الهامس الذائب بين ضجيج السيارات، فلا تجد الخطيبة بُدا من الصراخ حتى تفوق الضجيج، ووقتها ينظر إليها عماد وكأنها مخلوق آخر مختلف عمن كان يناجيه منذ لحظات، مخلوق أفسدته سيارات القاهرة.

«خنقة» القاهرة، حتى ولو تجاوب العشاق معها وحاولوا مصادقتها فإنها تأبى أن تبادلهم الصداقة، فتصر على مشاكستهم واقتطاع جزء من أوقاتهم السعيدة، فيقول حاتم الحسيني، وهو إخصائي للموارد البشرية بشركة أدوية كبرى في مصر: «أعتبر زيارتي لخطيبتي نوعا من تأدية الواجب، لأنني أنتهي من عملي في الثامنة مساء، وإذا فكرت في زيارتها فيستغرق الأمر ثلاث ساعات، أذهب إلى منزلي وأغير ملابسي، وأقطع المسافة من بيتي في المهندسين إلى حي مدينة نصر في ما يقرب من الساعة، وفور وصولي تستغرق فترة الترحيب من الأهل وجلوسهم معي ما يقرب من 20 دقيقة، وبعد فترة أجد نفسي في موقف لا أحسد عليه مع بلوغ منتصف الليل، وعندها أعود وأنا غارق في الخجل لتأخري في منزلهم حتى ذلك الوقت».

وفي فترة العطلة الأسبوعية يصطحب حاتم خطيبته أحيانا إلى أحد الكافيهات أو المطاعم، لكن «الخنقة» اللعينة تجبره على العودة مبكرا حتى لا تهزمه الطرق المزدحمة وتتسبب في تأفف والدَي خطيبته.

غنى المطرب الشعبي الشهير أحمد عدوية في نهاية السبعينات للزحام.. فتمتم مدندنا على أنغام لحن يواكب الضجيج المجتمعي الخانق: «زحمة يا دنيا زحمة.. زحمة وراحوا الحبايب.. زحمة ولا عدش رحمة.. مولد وصاحبه غايب».. كان وقتها يعلن عن بدء عصر جديد يتغير فيه إيقاع الحب ولغته، فاعترف أن الحبايب تاهوا في «الزحمة»، فلا وقت للمشاعر القديمة، فاليوم يحدد الحبيب ميعاد تركه لبيت حبيبته بميعاد «آخر مترو»، ويجبره الضجيج في أثناء سيره في الشارع على الاكتفاء برنات الهاتف الحديث، وهجرت الوردة ذات الرائحة الزكية أنف الحبيبة، وذبلت بين عوادم السيارات.

وإذا حاول أن يمشي على خطى عبد المطلب، ويتهادى في طريقه لخطيبته من حي السيدة إلى حي الحسين، فسيعتبره من حوله مجنونا، يقدم على الانتحار وسط أمواج الزحام.. فهي مرة كل أسبوع.. عليه أن يعكف قبلها على هاتفه تحت رحمة خاصية الـgps (خاصية تحديد المواقع)، تنظم سيره وتوقيته الملائم، قبل رحلته الشاقة.