أهوار العراق تموت ثانية.. وسكانها يرحلون

الجفاف وارتفاع ملوحة المياه ينذران بتدمير «جنة عدن»

الجفاف يهدد أهوار العراق («لوس أنجليس تايمز»)
TT

جفت بحيرات مترامية الأطراف وكشفت الأنهر عن قيعانها، أما الحيوانات فأصابها الإعياء، وهاجرت الطيور فيما يواجه أسلوب حياتي ضارب في القدم خطرا جديدا يهدد بقاءه. هذا ما يجري في منطقة الأهوار جنوب العراق التي تموت للمرة الثانية، لكن الجاني هذه المرة قوى الطبيعة، وليس يد الإنسان.

الموت الأول للمنطقة حدث في التسعينات من القرن الماضي، عندما عمد صدام حسين إلى تجفيف الأهوار عن عمد للحيلولة دون استغلالها من قبل المعارضة المسلحة، تسلل بعضها داخل العراق من إيران. وبعد إطاحة صدام حسين خلال الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للبلاد عام 2003، سارع العراقيون لتحطيم الحواجز التي أقامها، وعاد عشرات الآلاف من سكان الأهوار ممن اضطروا إلى الفرار في السابق إلى منازلهم. الآن، تهدد موجة من القحط المدمر أرزاق أبناء المنطقة من مزارعين وصيادين. ويقول علي حول، 52 عاما، شيخ من سكان منطقة الأهوار قاد مظاهرة مؤخرا في الناصرية لمطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات لمساعدة سكان المنطقة في معاناتهم «ما كان يوصف في يوم من الأيام بـ(جنة عدن) ومهد الحضارة تحول إلى صحراء ومهد للأمراض والفقر والمعاناة». يذكر أن العراق عانى الكثير جراء الجفاف خلال العامين الماضيين لكن ربما تتجلى تداعيات هذا الجفاف على النحو الأكبر في منطقة الأهوار حيث تلتقي روافد نهري دجلة والفرات وتتعدد خلال المرحلة الأخيرة من رحلتها للوصول إلى البحر، ما يخلق أكبر منطقة مستنقعات بالعالم. وقد بنى الناس حياتهم حول النظام البيئي الفريد بالمنطقة الذي يرجع عمره إلى آلاف السنوات، حيث امتهنوا الصيد وعملوا على تربية الجاموس للحصول منه على اللبن والجبن، وعاشوا داخل أكواخ مصنوعة من قصب الأهوار. ويشتهر عرب الأهوار، الذين يؤمنون بأن أرضهم هي التي ورد ذكرها في الإنجيل باعتبارها موطن بداية الحياة، بأنهم من نسل السومريين القدماء، الذين تسبق حضارتهم وفود العرب إلى المنطقة بآلاف السنوات. اليوم، ماتت الأسماك مجددا، ويعاني الجاموس من الإعياء جراء ذبول القصب الذي يتغذى عليه. ويؤكد الكثير من السكان أنهم لا يدرون ما إذا كانوا سيتمكنون من الاستمرار في العيش هنا. من بين هؤلاء منتظر راكان، 18 عاما، الذي أجبرت أسرته على الرحيل عن المنطقة خلال عهد صدام حسين، لكنها عادت عام 2004. الآن، مع استمرار الجفاف، عمدت الأسرة على الانتقال ثانية، حيث غادر راكان وأشقاؤه الخمسة الأصغر منزل والديه للانتقال إلى عمق الأهوار بحثا عن الماء للإبقاء على ثلاث جواميس مائية باقية لديهم. كانت الأسرة قد اضطرت لبيع ثماني جواميس أخرى للحصول على مال يسد رمقها. من ناحيته، قال راكان، بينما وقف بجانب الكوخ الجديد الذي بناه من قصب الأهوار ليعيش فيه مع أشقائه: «إذا ساءت الأمور، سأرحل عن المنطقة. سأرحل إلى الأبد. لا تلوح في الأفق بشائر حل. إذا ما بقينا هنا، واستمر مستوى كمية وجودة الماء في الانحسار، سنلقى حتفنا نحن وما نملكه من حيوانات». ولا تقتصر المشكلة على تراجع مستوى المياه، بل نظرا إلى العديد من الأنهار المتفرعة من دجلة والفرات لا تصل إلى الخليج بدأت المياه المالحة تتسرب إليها مما جعل من المتعذر شرب مياهها. علاوة على ذلك، تجمعت المياه التي ينبغي تدويرها في برك راكدة، ما سمح لبكتريا ضارة بالتكاثر بها وقتل الكائنات متناهية الصغر التي تتغذى عليها الأسماك. وأشار الكثير من سكان الأهوار إلى أن جواميسهم أصيبت بالعمى وباتت الإناث تنتج نسبة ضئيلة من اللبن التي اعتادت إنتاجها. ويضطر سكان المنطقة إلى شراء طعامهم ومياه معبأة، ولجأ الكثيرون منهم إلى بيع الجاموس الذي يملكونه للحصول على مال. ويقول شنيوه عبود، 60 عاما، والذي كان يتسوق في السوق المحلية بعد بيع العديد من الحيوانات التي يمتلكها: «فيما مضى، عندما كان يأتيني ضيف، كنت أتجه إلى خارج كوخي وألقي السنارة لأصطاد سمكة كبيرة أقدمها له».

من ناحية أخرى، أكد جاسم الأسدي، من منظمة «طبيعة العراق»، وهي منظمة لا تهدف للربح ترمي للحفاظ على البيئة تتعاون مع عرب الأهوار، أن الأفراد الذين اعتادوا تكميل دخولهم ببيع اللبن والجبن والبسط والحصائر والسلال المصنوعة من القصب تضرروا جراء الوضع الراهن. وبينما كانت الأهوار تغطي ثلثي إجمالي استهلاك العراق من الأسماك في السابق فإن الأسماك المجمدة من إيران تغرق السوق المحلية الآن، بينما اختفى تقريبا سمك الأهوار. واضطر الكثير من سكان الأهوار للرحيل عن ديارهم للمرة الثانية، متجهين إلى المدن القريبة مثل البصرة، حيث انضموا إلى صفوف العاطلين. وقد فشل آخرون في التكيف مع الحياة بالمناطق الحضرية عندما أجبروا على الانتقال إليها في عهد صدام حسين، لذا تعهدوا بالبقاء في المنطقة على أمل أن يحمل الشتاء القادم أمطارا تحسن أوضاعهم.

وبالنسبة لصالح أبو هيل، 42 عاما، الذي رحل عن المنطقة في التسعينات، يبدو الانتقال مجددا خيارا سيئا. يذكر أن نحو 40 أسرة تسكن بالمنطقة المجاورة له في قريته على أطراف الأهوار غادروا ديارهم بالفعل، لكن صالح يجد صعوبة في التفكير في تغيير أسلوب حياته مجددا. وقال وهو يجمع أعواد القصب من أحد الروافد القليلة المتبقية، على بعد نحو 100 ميل من منزله: «كانت العودة حلما يراودنا. كيف يمكننا التخلي عنه الآن؟».

* خدمة: «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»