العراقي «ابن بابل» بين التسامح والرغبة في الانتقام واختصار 12 دقيقة من فيلم «المسافر»

في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي بـ«أبوظبي»

عمر الشريف بطل فيلم «المسافر»
TT

مساء الخميس الماضي افتتح مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي بـ«أبوظبي» دورته الثالثة وسط أجواء مفعمة بالبساطة. اقتصرت مراسم الافتتاح على كلمات قليلة بدأها الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان رئيس هيئة أبوظبي للثقافة والتراث ولم يزد الأمر عن كلمة ألقاها بعد ذلك المدير التنفيذي للمهرجان «بيتر سكارليت» المدير السابق للمهرجان العالمي.

ثم بدأ بعدها مباشرة عرض الفيلم المصري المسافر بحضور مخرجه أحمد ماهر وعدد من أبطاله سيرين عبد النور وبسمة وعمرو واكد والمونتير تامر عزت.

كان الجميع في «أبوظبي» ينتظرون أن يأتي بطل الفيلم النجم العالمي عمر الشريف للاشتراك مجددا في المهرجان، بعد أن شهد عرضه قبل شهر بفينيسيا داخل المسابقة الرسمية حالة غير مسبوقة من الغضب العارم الذي اعترى عمر الشريف وأعلن اعتراضه أمام الجميع على الفيلم مؤكدا حاجته إلى المونتاج ليصبح فيلما، وأيضا باح بغضبه اعتراضا على أداء خالد النبوي.

وكان المونتير تامر عزت مع المخرج أحمد ماهر قد أعادا بالفعل المونتاج النهائي وتم حذف 12 دقيقة من الفيلم القسط الأوفر منها كان متعلقا بالجزء الثاني من أحداث الفيلم والذي أثار مشكلات فنية عديدة خاصة وأن خالد النبوي تعمد في هذا الجزء أن يقلد أداء عمر الشريف في الصوت والحركة بل والنظرة مما أحاله إلى مسخ وبالطبع فإن المسؤول عن كل هذا هو المخرج أحمد ماهر الذي كان عليه التدخل في التوقيت الحاسم بإعادة الإيقاع الصحيح حتى لا يفقد الفيلم روحه الفكرية وأيضا الجمالية.

يتكئ الفيلم على فكرة شديدة الثراء الإبداعي وذلك عندما يروي رجل غادر الحياة كل أحداث حياته.. الأيام هي: يوم في خريف 48، والثاني خريف 73 والثالث 2001. ليست بالطبع تلك اختيارات عشوائية ولكنها مقصودة لمنح الفيلم زخما تاريخيا فلقد عشنا في 48 النكبة بعد اغتصاب إسرائيل لفلسطين وفي 73 كان الانتصار في السادس من أكتوبر، ثم بأميركا في 11 سبتمبر 2001 جاءت حادثة البرجين التي هزت العالم كله وتغيرت بعدها كثيرا النظرة إلى العرب والمسلمين ولم تعد تلك الحيادية بل صار هناك دائما اتهام مسبق يطال كل ما هو مسلم أو عربي. يعود المخرج في الجزء الأول من الفيلم حاملا أجواء نهاية الأربعينات. اختار سفينة يذهب إليها خالد النبوي الذي يؤدي دور عامل التلغراف، المفروض أنه يحمل إلى سيرين عبد النور رسالة من حبيبها الذي أدى دوره عمرو واكد لكنه قرر أن يبحث عنها موقنا أنها قدره المحتوم الذي لا يستطيع منه الفكاك. قدم مهندس الديكور أنسي أبو سيف ديكور السفينة كحالة إبداعية خاصة وشاهدنا راقصات الشمعدانات وموسيقى فلكلورية لأغنية يا حسن يا خولي الجنينة التي تؤديها شادية لتعيدنا مرة أخرى إلى تلك اللحظة الزمنية.

الخيط الذي يربط هذه الحكايات هو بحث البطل عن حقيقة حياته ومحاكمة ذاتية لضعفه وعدم قدرته على المواجهة وهروبه في اللحظات المصيرية. والجزء التالي من الفيلم يتعرف البطل الذي أدى دوره أيضا في تلك المرحلة خالد النبوي يتعرف على ابنة حبيبته التي أدت دورها أيضا سيرين عبد النور فهي لا تشبه أمها تماما والمفروض أنه يشعر بها وبأنها ابنته فلقد أقام علاقة مع أمها في عام 48 أي أن الابنة في عام 73 قد صارت شابة في الخامسة والعشرين من عمرها إلا أننا نكتشف موت الأم وبعد ذلك موت أخيها التوأم والذي تؤكد له سيرين أنه كان نسخة من ملامح عمر الشريف. في اليوم الثالث 2001 يتعرف عمر الشريف على حفيده الذي أدى دوره شريف رمزي وهو يحمل ملامح تثير الريبة ولديه أنف تشبه عمر واكد.

مما يعيدنا مرة أخرى إلى حالة الشك وحقيقة البنوة حيث إن حسن، خالد النبوي الذي يؤدي دور عمر الشريف في شبابه قد أقام علاقة مع سيرين عبد النور.. نفس يوم زواجها من عمرو واكد إلا أننا في الجيل الثاني نعتقد أن ابني سيرين التوأم هما ابنا حسن، ولهذا يأتي طرح التساؤل في الجيل الثالث وكأنه يعيدنا مرة أخرى للمربع رقم واحد.

وقبل نهاية الفيلم نرى عمر الشريف في الأتوبيس النهري في يوم عيد الفطر مع امرأة جميلة محاطة بعدد من الأبناء من أكثر من زوج. ونكتشف أنها حامل ولهذا يسألها عمر الشريف عن الجنين في أحشائها ومن هو أبوه. تجيبه بأنها لا تعرف حقيقة من هو أبوه! الفيلم أنتجته وزارة الثقافة المصرية ورصدت له مبلغا يصل إلى 4 ملايين يورو وهو يتجاوز ما تعارفت عليه السينما المصرية حيث إن الدولة توقفت عن الإنتاج قبل نحو 35 عاما.

مدير تصوير الفيلم الإيطالي فاركو أونراتو وهو واحد من أفضل مصوري السينما في العالم، وقدم بالفعل صورة مليئة بالثراء البصري من خلال رؤية المخرج. إلا أن الفيلم في جزئه الثاني كان يحمل تناقضا على مستوى الرؤية الإبداعية أثرت بالسلب على جمهور المتلقين برغم أن هذه العروض تقع في دائرة النقاد والصحافيين سواء في مهرجان فينيسيا أو أبوظبي أي أن الفيلم يتعامل مع متفرج مدرب على المشاهدة وأيضا على روح المغامرة الإبداعية ولكن جزءا لا يستهان به من الجمهور كانت له العديد من الملاحظات السلبية على الفيلم ولهذا حرص عمر الشريف مؤخرا على إصدار بيان يؤكد فيه أنه كانت لديه ملاحظات على الفيلم تتعلق فقط بافتقاده للإحساس الجماهيري.

لا أتصور أنه عند إعلان الجوائز السبت القادم سوف تخلو أسماء الأفلام الفائزة من «ابن بابل» للمخرج العراقي محمد الدراجي، الفيلم يتناول رحلة طفل وجدته إلى الناصرية للعثور على الأب. أحداث الفيلم تبدأ في اللحظة التي سقط فيها نظام صدام حسين. الطفل 12 عاما أنجبه أبوه ثم دخل السجن رغم أنه ضابط في نظام صدام حسين. إنهم عائلة كردية عانت الكثير على يد صدام حسين ويحرص الفيلم في نهاية الأمر على التأكيد بأن صدام حسين كان يمارس الظلم على الجميع. العرب والأكراد الشيعة والسنة لهذا انتقلت الأم من شخصية إلى أخرى في رحلتها للبحث عن ابنها لتقدم بانوراما للإنسان العراقي. نرى أولا السائق الكردي الذي يقرر استغلال الموقف لصالحه ويحصل من الجدة على 500 دينار عراقي مقابل توصيلها إلى بغداد ولكنه بعد ذلك يعيد إلى الجدة والحفيد النقود في نهاية الرحلة. وأيضا نرى الجندي العراقي الذي يجيد اللغة الكردية ولكنه يشترك في قتل الأكراد وذلك تنفيذا لأوامر صدام حسين وترفضه الجدة في البداية ثم بعد ذلك تكتشف أنه مثلها ضحية. قدمت مشاهد البحث عن بقايا جسد الأب بدرجة حرفية عالية وبإحساس مليء بالشجن. وأراد المخرج أن يضع الجميع في حيرة بين الرغبة في التسامح والالتزام بالانتقام. الفيلم يقع في إطار سينما الطريق road movie حيث إننا نشاهد في الطريق إلى الناصرية كل البشر، نكتشف أن المأساة واحدة. كان للحفيد رغبة أن يتعلم الموسيقى ولهذا يمسك بآلة الناي التي كان يعزف عليها والده ويرتدي أيضا سترته العسكرية لكنه يختار الناس وهو في طريقه إلى حدائق بابل مع نهاية رحلة البحث وترحل الجدة ويبكيها وكأنها تغلق صفحة من تاريخ العراق لتبدأ صفحة جديدة. بطل الفيلم الطفل ياسر طالب، قدم دوره بتلقائية فهذه أول تجربة له وأيضا الجدة شاردة حسين وقفت لأول مرة أمام الكاميرا، وتفوق عنصرا الموسيقى كاد اكوري والمونتاج باسكال. وكان المخرج محمد الدراجي قادرا على ضبط إيقاع الفيلم وعلى أن يمزج لحظات الشجن بمواقف مليئة أيضا بخفة الظل لتصل الرسالة إلينا عميقة ومؤثرة.