الفيلم الفلسطيني «الزمن المتبقي» يرفع سلاح المقاومة الناعمة

مخرجه فاز بجائزة أفضل روائي شرق أوسطي في أبوظبي

الفيلم اشترك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الأخيرة وكان أحد الأفلام التي حظيت بترقب وبترشيحات أيضا للحصول على الجائزة (أ.ف.ب)
TT

أفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، مثل «يد إلهية» ومؤخرا «الزمن المتبقي»، الذي فاز بجائزة أفضل روائي شرق أوسطي، نلمح دائما شيئا مشتركا بينها، وهو الإصرار على إعلان الهوية الفلسطينية مع الاحتفاظ بقدر كبير من الهدوء مشوب بخفة الظل. إنها المقاومة الناعمة التي تملك الكثير من أدوات التعبير، لكنها في الوقت نفسه تمتاز بهذا القدر من الانسيابية وتحقق بلا شك دفئا وحميمة لدى الجمهور. إنها رحلة الحب للأرض الفلسطينية بعد سنوات كثيرة من الغربة، هكذا يقدم المخرج إيليا سليمان دوره داخل الأحداث في الفيلم، وبعد أكثر من 60 عاما من الاحتلال الإسرائيلي.

الفيلم اشترك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الأخيرة، وكان أحد الأفلام التي حظيت بترقب وبترشيحات أيضا للحصول على الجائزة.

الفيلم فلسطيني الانتماء ليس فقط كوجه يتبناه المخرج، ولكن أيضا على مستوى الإنتاج، حيث إن إيليا مع عدد من الشركات والفضائيات العربية مثل «mbc» ساهموا في تحمل تكلفة الإنتاج. وهكذا اشترك الفيلم في كان ممثلا السينما الفلسطينية وانتقل إلى أبوظبي، لسينما الشرق الأوسط وهو محتفظ بالطبع بهويته الفلسطينية، رغم أن بعض الكتابات المتعجلة من بعض النقاد العرب قبل اشتراكه في مهرجان «كان» وصمته باعتباره فيلما يمثل إسرائيل، على اعتبار أن المخرج حصل على تمويل إسرائيلي، وهذا بالطبع يخالف تماما الحقيقة، فهو فيلم فلسطيني الفكر والإنتاج في الموهبة والهوية. الفيلم أقرب إلى سيرة ذاتية يمزج فيها المخرج بين الخاص والعام، فهو يروي حياته وأيضا يروي حياة وطن. فتشعر في لحظة ما بأنك أمام سرد يومي أو كتابة مذكرات، خاصة، وهو يقدم ملامح من حياته، ولكن هذا السرد وظفه المخرج داخل إطار إبداعي، لا يكتفي بأن يقدم ذاكرته هو فقط ولكنه يضيف عامدا متعمدا ما يراه أيضا من خلال صور تراكمت بداخله مما رواه له الآباء والأصدقاء، ولهذا يهدي فيلمه إلى أبيه وأمه اللذين غادرا الحياة قبل أن يرى فيلمه النور. إيليا سليمان هو ابن مدينة الناصرة؟

قال إيليا سليمان، إن الإنسان الفلسطيني الذي عاش بعد 48 داخل ما يعرف بالخط الأخضر لم يفقد هويته ليصبح إنسانا إسرائيليا، هو مضطر لأن يحمل بطاقة هوية إسرائيلية بحكم الضرورة، لكنه عربي الانتماء والفكر، جواز السفر لا يغير شيئا حقيقيا داخله، هذا الإنسان، وفيلم إيليا يتواصل فيه هذا الإحساس.

إيليا ولد عام 1962 لكنه يعود ليروي ما حدث في عام 1948 من خلال ذاكرة أبيه وأمه والجيران، المقاومة الفلسطينية الباسلة، التي كانت تضرب من الداخل، حيث إن بعض الفلسطينيين كما يحدث الآن كانوا بمثابة طابور خامس يطلع جيش إسرائيل على من لا يزال يقاوم الاحتلال بالسلاح. الفيلم توثيق للذاكرة الفلسطينية التي تحاول إسرائيل أن تنزعها من التاريخ وتمحوها، لكن المخرج يسعى بهذا الشريط إلى تأكيدها وإنعاشها، ولا تستطيع أن تعتبرها فقط مجرد ذكريات شخصية، حيث إن الخيال من المؤكد أضاف الكثير، وهى أيضا لم تكن سردا لعائلة سليمان فقط، بل تدخل أيضا الجيران، وما تبقى في ذاكرة المخرج من مواقف وحكايات الكل، تضيف شيئا هنا وقد تمحو أيضا شيئا هناك.

السخرية أحد أسلحة إيليا في المواجهة، وأيضا الأغنية، وهكذا مثلا تستمع إلى أغنيات محمد عبد الوهاب وليلى مراد ونجاة وفيروز،.. أغنية «قلبي دليلي» رائعة ليلى مراد حاضرة جدا بهذا اللحن الراقص الذي إبدعه محمد القصبجي ليظل يحمل حتى الآن روح التفاؤل، أيضا «جفنه علم الغزل» لمحمد عبد الوهاب، تلك القصيدة المفعمة بكل التفاؤل، وأيضا الإيقاع الراقص، ونجاة و«أنا بعشق البحر» أيضا أحد الألحان التي تبعث على الفرح والتفاؤل، وتعثر في الفيلم على أغنية واحدة وطنية فقط قصيرة تتردد في بداية أحداثه تعود إلى عام 1948، وبعد ذلك فإننا نعيش المقاومة الساخرة، وهى بالمناسبة دليل القوة. الإنسان القادر على أن يحمل في أعماقه الروح الساخرة حتى في عز الأزمة فقط هو الإنسان القوي. وهكذا نري مثلا هذا المشهد: امرأة تجر أمامها عربة بها طفلها. المرأة خرجت أثناء المظاهرة لتتجول، نستمع في البداية إلى صوت كعب الحذاء العالي. يتجه إليها عسكري إسرائيلي يطلب منها أن تعود إلى بيتها حتى لا تتعرض لأي أذى، تقول لا عد أنت إلى بيتك، قدم المخرج هذا المشهد من خلال عين إيليا نفسه التي شاهدناها وهى ترقب من أعلى ما يحدث في الشارع، عرب يلقون بالحجارة على جيش إسرائيلي، والجيش يطلق زخات من القنابل لإرهابهم وهم لا يكفون عن المقاومة، إلا أن هذا المشهد المستمر العبقري لتلك المرأة كان يحمل في أعماقه معنى يتجاوز مجرد المقاومة ليصل إلى الإصرار على الحياة، لأن هدف الاحتلال هو أن يفقد الفلسطيني روح الحياة.

الملاحقات الأمنية التي قدمها الفيلم بين جنباته نراها تعبر طوال الأحداث عن خوف إسرائيل أكثر مما تعبر عن قوتها، مثلا هذا الشاب الفلسطيني نراه يتحدث في الجوال حديثا شخصيا ويقطع الشارع الذي يقطن به من الرصيف، بينما فوهة الدبابة تتجه إلى رأسه في الذهاب والعودة، وهو لا يكترث إطلاقا بما يجري فوق رأسه، فهو مشغول بما يجري في رأسه!! هذه اللقطات وغيرها تؤكد على أن الخوف الإسرائيلي هو الذي يسيطر على الإنسان هناك، فهم لا يعترفون إلا بالقوة القمعية، وفى النهاية تظل تلك القوة محاطة بسقف لا يمكن أن تتجاوزه، فهي قوة ناقصة بينما روح التفاؤل والتشبث بالحياة هي التي يقبض عليها الفلسطيني، ولهذا تمنحه الحياة وتخيف الأعداء.

قدم المخرج مشهدا خياليا ذكرنا أيضا بمشهد مماثل، مهما اختلف التعبير، قدمه في فيلمه «يد إلهية» عام 2004، قبل نحو خمس سنوات، تخيل فيه أنه يلقي قنبلة على مدرعة إسرائيلية، لكن هذه المرة في «الزمن المتبقي» نراه وهو يمسك بعصا لعبة «الزانة»، حيث تمكن هذه العصا لاعب الزانة من القفز عاليا، وهكذا يتخطى الجدار العازل بين ما يعرف بالخط الأخضر الذي أقامته إسرائيل. بالطبع تأتي هذه القفزة فقط في خياله، لكنها تدخل أيضا في إطار المقاومة، لأن ما لا يستطيع تحقيقه في الواقع، من حقه أن يحتفظ به، في خياله، ويعيشه أيضا على أمل أن يصبح يوما ما هو الحقيقة. من المشاهد التي لم تغادر ذاكرة المخرج اضطراره وهو طفل أن يغني في يوم الاستقلال وهو بالطبع يوم النكبة. النكبة داخل المدرسة يغني بالعربي والعبري لهذا اليوم. هكذا كان الاحتلال يجبر الطفل العربي على أن يسعد ويبتهج بيوم نكبته، الناصرة حيث يقطن إيليا سليمان نرى تلك الوجوه بعد مرور السنوات. مثلا هناك الرجل الذي يمسك بالكيروسين ويضعه على جسده ويهدد بأن يشعل عود الثقاب ليحرق نفسه وينهي حياته احتجاجا وهو لا يجد لأيامه جدوى سوى أنه يحتسي الخمور، وأثناء ذلك يلقي بموقف أو طرفه يعتقد أنه جاد فهو يتأمل الاحتلال الإسرائيلي ويرى أن الخلاص من كل ذلك بأن يعبر الخيال المريض الذي يشبه الهذيان، حرص المخرج على أن يقدمه لنا وهو ممسك بكأس الخمر. كذلك نرى في الفيلم اثنين من العرب يذهبان ليلا إلى البحر ولا هم لهم سوى اصطياد السمك. وتأتي دائما عربة الشرطة الإسرائيلية لتسألهما عما يفعلان فتتكرر الإجابة ولهذا تتركهما، ربما خمس أو ست مرات يتكرر المشهد، لكنك لا تشعر بأنه تكرر ولا بالملل لأن المخرج في كل مرة يختصر الزمن السينمائي. يكتفي بأنك كمتلقي تكمل البقية، وهو أيضا ما طبقه سينمائيا مع المشهد المتكرر للرجل العجوز الذي يقدم بعد كل حدث على الانتحار، والمعروف علميا أن أحد ميكانيزمات ودوافع الضحك والدراما هو التكرار، وهكذا كلما رأيت الرجل العجوز توقعت بقية اللقطات.

أجاد المخرج تحقيق ذلك بأسلوب سينمائي غني في تفاصيله. من المشاهد أيضا التي قدمت فنيا وتجسد فكرة التشبث بالحياة، إصرار عدد من الشباب الفلسطيني، رغم إعلان حظر التجول على الذهاب إلى الديسكوتيك. كان الجندي الإسرائيلي يمسك بالميكروفون معلنا أن اليوم ممنوع فيه الخروج إلى الشارع بينما هم يصرون على الحياة والمقاومة حتى ولو كانت بالرقص. فلا أحد يملك قرارا بمصادرة حق الآخرين في الاستمتاع بالحياة، وتلك هي أكثر أنماط المقاومة الناعمة التي تؤلم إسرائيل. لقد حرص المخرج إيليا سليمان على منهج وأسلوب إخراجي يرتكز إلى الواقع، بل إلى التسجيل في اللحظة التي يري فيها أن هذه الوسيلة هي فقط القادرة على تأصيل وتوثيق الحدث، ثم تجده بعد ذلك يرتكز إلى النموذج في الخيال، عندما يصبح هذا الخيال هو السلاح القادر على التعبير عن الحقيقة التاريخية. إنه فيلم فلسطيني سيظل شاهدا على التاريخ، لا يمكن لجغرافيا الاحتلال الإسرائيلي أن تمحوه، لا من الذاكرة ولا من على أرض الواقع. أثناء عرض الفيلم في مهرجان الشرق الأوسط بأبوظبي كنت استمع وفى أكثر من مشهد ليس فقط إلى ضحكات الجمهور ولكن أيضا إلى تصفيق ربما سبع مرات أو يزيد، كان الجمهور يصفق للمخرج وكأنه يتابعه على خشبة المسرح ويطلب منه أن يعيده، إذ إن السينما لا تعترف سوى بالعرض المستمر ومن يريد استعادة مشهد عليه أن يحتفظ به في ذاكرته، وأتصور أن فيلم إيليا سليمان «الزمن المتبقي»، سوف يحمل الكثير مما تبقى في ذاكرة كل من شاهده، ومن حقه أن يرنو للحصول على جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم في مهرجان أبوظبي!!