مع اقتراب أشهر الخريف من كل سنة تستعد معظم العائلات التونسية بشكل تدريجي لاستقبال موسم جني الزيتون الذي تعيش من صابته مئات الآلاف من العائلات. في الموسم يخرج أفراد العائلة محملين بالأكياس الفارغة والسلالم الطويلة القادرة على الوصول إلى أعالي الأشجار. وعند المساء ترجع البغال محملة بحبات الزيتون الساطعة الألوان تنشر معها أجواء من الفرح العائلي الذي قلما تجد له نظيرا خلال بقية أشهر السنة. وأدى ارتفاع أسعار زيت الزيتون خلال السنوات الأخيرة من معدل دينارين تونسيين للتر الواحد (حوالي دولار أميركي ونصف) إلى قرابة خمسة دنانير (حوالي أربعة دولارات) إلى رفع درجة اهتمام العائلة التونسية بأشجار الزيتون وجعلها كذلك تسعى إلى تشبيب الغراسات وتوسيع مساحاتها.
وتعتمد أكثر من 500 ألف أسرة علي صناعة زيت الزيتون التي تحتاج لعمالة كثيفة. ويبلغ عدد أشجار الزيتون في البلاد نحو 65 مليون شجرة. وتحتل عمليات جني الزيتون مكانة متميزة في أنشطة العائلة التونسية أولا لاعتبارات اقتصادية وما توفره من مداخيل موسمية، وثانيا باعتبارها فرحة سنوية تجمع أفراد العائلة لأشهر متواصلة حول نفس النشاط.
حول عمليات الجني قال أحمد بن موسى (70 سنة)، «الفترة التي نقضيها في جني الزيتون تقرب أفراد العائلة من بعضهم بعضا بعد قضاء ساعات طوال في الجني الجماعي، إلا أن العملية مع ذلك غالبا ما تكون مرهقة خاصة إذا ما تهاطلت الأمطار، ولكن ارتفاع الأجر اليومي للعمال سواء من يعملون بنسبة من كميات الزيتون المتحصل عليها، أو بأجرة يومية، جعلنا نعول على إمكانياتنا الذاتية».
وتعد تونس رابع منتج للزيت في العالم، ويعود تاريخ غراسة أشجار الزيتون إلى القرن الثامن قبل الميلاد وهي اليوم تحتل أكثر من ثلث المساحة المخصصة للنشاط الفلاحي وتسيطر أنواع من الزيتون على مساحات كبيرة وذلك على غرار «الشملالي» بأنواعه حيث نجد شملالي جربة وصفاقس وتطاوين وجرجيس، ولكل نوع من هذه الأنواع خصوصيات تختلف من جهة إلى أخرى إلا أنها تجتمع حول المردودية المعتبرة بالمقارنة مع أنواع أخرى من الزيتون مثل «المسكي» و«البسباسي» و«ناب الجمل».. حول هذه الأنواع من الزيتون والإقبال على غراسة أشجار الزيتون، قال عبد المجيد بن حسن (35سنة ـ عون فني في الفلاحة)، «إن السلطات التونسية توفر سنويا كميات هائلة من شتلات الزيتون توزعها بأسعار زهيدة للغاية تشجيعا للفلاحين على تطوير المساحات المخصصة للزيتون»..
وتشير التوقعات إلى أن صابة زيت الزيتون هذا العام مقدرة بحوالي 200 ألف طن.. ويعرف زيت الزيتون التونسي باكتسابه للعديد من الأصناف والأذواق والنكهات حسب أصناف الزيتون ومنطقة الإنتاج ونوعية المناخ. وتختلف نوعية الزيت بين مناطق الشمال ومناطق الوسط والجنوب.. وقد اعتمدت العائلات التونسية لسنوات طويلة على الطرق التقليدية خاصة على مستوى الحصول على زيت الزيتون وذلك عبر اللجوء إلى خلط عجين الزيتون بالمياه كطريقة علمية أثبتت جدواها دون التفطن لقواعدها العلمية، فالزيت يطفو فوق المياه ويقع تجميعه دون عناء يذكر. وغالبا ما تكون الليلة السابقة لعمليات ما يسمى بـ«طفح الزيت» مناسبة للحصول على أجود الزيوت المعروفة باسم «زيت النضوح» ذي الطعم الحار والمذاق المميز الذي يخرج بصفة تدريجية من الأكياس الممتلئة بعجين الزيت. حول هذه الطريقة التقليدية، قالت الخالة علجية المعلاوي (67 سنة) إن تلك الطريقة على صعوبتها كانت مجدية للغاية «كان لدي إحساس بأنني أعرف ذاك المنتوج بكافة مراحله.. أما الآن فإن معامل تحويل الزيتون أصبحت تعطينا زيتا لا علاقة معنوية لنا به». وأضافت «ولكن العائلة لا يمكن أن تستغني عن عولتها من الزيت طوال السنة، فزيت الزيتون غذاء ودواء ومنافع جمة».
وتسعى تونس لاكتساح أسواق جديدة قادرة على استيعاب قسط هام من إنتاج زيت الزيتون، وأمكن للإنتاج التونسي أن يصل خلال السنوات الأخيرة إلى أسواق جديدة مثل دول الخليج العربي مثل الكويت وقطر والإمارات، وأميركا الشمالية مثل كندا والولايات المتحدة، وكذلك أستراليا. وتعتبر تونس زيت الزيتون بمثابة البترول الأخضر وأمكن لصادرات تونس من زيت الزيتون خلال الموسم الماضي أن توفر حوالي 696 مليون دولار من مجمل صادرات تونس الفلاحية.. وتوجه تونس قرابة 70 في المائة من إنتاجها إلى الأسواق الخارجية وما لا يقل عن 55 ألف طن من زيت الزيتون إلى الأسواق الأوروبية..
وتنشط حوالي 1600 معصرة زيتون على تحويل إنتاج الزيتون، وهي توفر آلاف فرص العمل بصفة موسمية لمدة تتجاوز الخمسة أشهر سنويا، علاوة على النشاط العادي المتواصل في صفوف العائلات المعتمدة على فلاحة الزيتون في توفير معظم مداخيلها.
وتحتفل منطقة القلعة الكبرى الواقعة على مقربة من مدينة سوسة الساحلية بالمهرجان الدولي للزيتونة وتسعى خلال هذه الدورة الجديدة إلى دراسة موضوع «تحسين وتثمين أفضل لزيت الزيتون في تونس» وذلك بهدف التعريف بمميزات زيت الزيتون التونسي والسعي لتوفير زيت من النوعية الرفيعة. ويسعى المهرجان من ناحية أخرى إلى التعريف بخصائصه الغذائية والصحية والحديث عن مساهمة زيت الزيتون في تنشط الدورة الدموية والحماية من تطور الجلطة القلبية ومن هشاشة العظام بالإضافة إلى حماية الجسد من بعض الأمراض السرطانية ومن الدهون في الدم أو ما يعرف بـ«الكولسترول».