رقص الـ«بوتو» الياباني يتحدى اللبنانيين

أتوشي تاكينوتشي من سلالة فنية تحدت هيروشيما

أحد عروض الـ«بوتو» الجماعية
TT

كثيرون لم يدركوا، ربما، ما كان يفعله الراقص الياباني العالمي أتوشي تاكينوتشي، على مسرح «دوار الشمس» في بيروت مساء الأحد الماضي. لكن غالبية الحاضرين، الذين ملأوا الصالة للاستفادة من هذا العرض اليتيم الذي لن يتكرر، بقوا طوال ساعة ونصف الساعة، مشدودين ومبهورين بأفانين هذا الياباني الذي جاب العالم ليقدم فن «البوتو» في القارات وكأنما ينشر رسالة إنسانية سامية. خرج علينا الراقص تاكينوتشي، وكأنه آتٍ من غور عميق. ظلام المسرح الدامس الذي لم يترك لنا غير كوة ضوء صغيرة لرؤية هذا المخلوق الذي يتوسط المكان، ويكبر مع تقدمه في المشي تجاهنا، جعل تركيزنا يتكثف وحاجتنا لاكتشاف المزيد كبيرة.

توسط تاكينوتشي المسرح ونحن لا نرى من الصالة غير جسده وحركات يديه وهو ينثر ببطء شديد بودرة بيضاء من كفيه. استغرق الأمر وقتا طويلا، كي يتمكن الرجل من نفض هذا الرذاذ المتطاير حتى بدا وكأنه لا ينفد، فيما يتمايل بجسده على صوت موسيقى رفيقته هيروكو كوميا التي أخذت ركنا جانبيا، وعزفت على آلات مختلفة، إيقاعات يابانية، مرات تكون كالنقر على المعدن، ومرات أخرى كصوت القواقع، وغيرها كموج البحر أو عصف الريح. هكذا بدأ عرض «تن مون»، حيث «تن» تعني تساقط نقط المياه و«مون» هو قوس التموج على سطح الماء بما يشبه تماوجات الرقص.

إنها المرة الثانية التي يكتشف فيها اللبنانيون فن الـ«بوتو». فقد جاء تاكينوتشي، هذا الياباني المولع بتطويع الجسد، العام الماضي ورقص هنا، وها هو يعود ليقدم عرضا واحدا «لأنه أحب لبنان كثيرا ـ كما يقول ـ وكان ينتظر إيابه إليه». هذا العرض تتلوه ورشة عمل لعدة أيام لإدخال الراغبين في عالم الـ«بوتو» في دهاليزه العميقة.

ولد رقص الـ«بوتو» على يد تاتسومي هيجيكاتا بعد 14 عاما من الحرب العالمية الثانية في اليابان وانفجاري هيروشيما وناغازاكي الجحيميين. السنوات التي تلت الهزيمة شعر فيها اليابانيون بامتهان عارم وإحساس بأنهم مغزوون من الغرب حتى النخاع. جاء الـ«بوتو» كرقص احتجاجي على الحداثة الغربية وبدء تلاشي القيم الشرقية اليابانية. لكنه في الحقيقة فن يعاند كل شيء، ويستفيد من الفنون الغربية ليناجي الطبيعة، ليعود بالإنسان إلى صوته الداخلي. وللمفارقة، فإن العروض الأولى لهيجيكاتا كانت مستوحاة من نصوص لجان جينيه وماركيز دو ساد، وكانت صادمة لجرأتها ورغبتها في كسر المحرمات والقفز على المألوف. ربما أن المتفرج اللبناني وهو يكتشف تاكينوتشي ورقص الـ«بوتو» مصادفة يوم عيد الاستقلال الوطني اللبناني، لم تخطر بباله كل هذه الأفكار. فالراقص الآتي من تأملاته، وعيشه في أنحاء الطبيعة معظم الوقت، ويتمنى لو يمارس كل رقصاته على مسرحها، كان هذه المرة في صالة مغلقة طوعها بالضوء والديكورات الطفيفة، لكن المؤثرة والمدروسة بعناية. أمران يصعب على المتفرج العربي احتمالهما في الـ«بوتو» ربما، وهما: البطء الإيقاعي الشديد للجسد، والقسوة العارمة. لكن المهارة العالية تجعل عنصر الجذب مؤمنا، والمشهد جذابا. فقد استطاع تاكينوتشي أن يتحرك وكأنه قادر على التحكم في كل عضلة في جسده بطريقة مذهلة. أصابع الرجلين واليدين من صغيرها إلى الأكبر فيها، عضلات الحنجرة والوجه وحتى القفص الصدري، والفك وحدقة العينين. صار، في بعض الأحيان، تاكينوتشي كضفدعة وفي أوقات كثيرة كوحش كاسر. كثير من العنف التعبيري، الذي تفصح عنه عضلات هذا الراقص المصرّ على أن يرينا إرادة فولاذية في فعل ما يظنه البعض مستحيلا.

خرج تاكينوتشي من قلب الستارة وكأنه يمزقها، جعل منها شاشة لانعكاس ظله. رأيناه مزدوجا هو وظله يرقصان، يكبران يصغران. وحين ظن المتفرج أن الراقص استنفد لعبة الضوء وترقيص العضلات حتى آخرها، خلع ملابسه ليبدو كهيكل عظمي غطس في بركة ماء موجودة على المسرح، عائدا إلى العناصر الأولى، بلل شعره ونفضه في الأنحاء. وبعد ذلك شد تاكينوتشي إحدى الستارتين الصغيرتين اللتين غطتا جانبي المسرح، وجعل منها دثارا رقص به حتى الثمالة. كل هذا على وقع موسيقى شديدة التنوع تنتقل من النقر إلى الهدير القاسي، فيما يأخذ الراقص أشكالا تتراوح بين شكل الجنين في بطن أمه، ودهشة المخلوق البدائي المذهول والفاغر فاه وكأنه في دهشة أبدية.

حين ترى الـ«بوتو» تكتشف الحركات المكهربة، والمشي الآلي الذي اخترق به مايكل جاكسون قلوب عشاقه. ومن بين ما تكتشف الحركات العربية للذراعين واليدين حين يلوحان في الهواء. هذا الفن الذي جاء ليواجه رقص الباليه والكلاسيكيات الغربية، لم ينغلق على نفسه، وربما هنا يكمن سر صلابته. فقد بات الـ«بوتو» بفعل شراسة راقصيه، أكثر شهرة خارج اليابان مما هو داخلها. وراقص كبير مثل أتوشي تاكينوتشي تدرب على أيدي الرواد، خاصة مبتكر الـ«بوتو» تاتسومي هيجيكاتا، ها هو يعيش في أوروبا منذ عام 1990، وجمهوره يتوزع في أنحاء الأرض، من دون أن يستثني أميركا اللاتينية أو ألاسكا. من هنا نفهم قوة الـ«بوتو» الذي أثبت قدرة على الاختراق، ليس فقط لجمالياته التي يصعب جحودها، ولكن لما لراقصيه من قدرة على الإبهار. فهو رقص يستدعي الشغل على الذات والنحت في العضلات، والقسوة الشديدة في التمارين، وهذا كله يحتاج إرادة فولاذية، وإيمانا بالنفس وطاقاتها المتأهبة للتفجر. درس في العظم للبنانيين في يوم «عيد الاستقلال» الذي يعرفون هم أنفسهم أنهم لا يزالون عاجزين عن صيانته.