الشيخوخة.. استراحة المحارب

المختصون يقولون: صادقها والمرأة الأكثر خوفا منها

يشير الكثير من المختصين إلى أن الرجل أقل حساسية وتوجسا في الشعور بالشيخوخة من المرأة («الشرق الأوسط»
TT

برصانة تشبه حكمة العراف، وتبتُّل الصوفي، أثنى العشري عبد العزيز الصحافي المخضرم، على الشيخوخة قائلا: «أخيرا أصبح هناك من يوسّع لي مقعدا في الباص ويلح عليّ كي أقعد مكانه». ويضحك وهو يتابع: «أصبحت أستمتع بلافتة (مخصص لكبار السن) في السوبر ماركت، فهي تنقذني من الزحام بخاصة في أيام العطلات والمناسبات. لا أصدق أنني عشت نحو 60 عاما في هذه الحياة. شكرا للشيخوخة التي فجّرت طاقة الخير في البشر والأشياء».

لكن وفاء (45 عاما) الإعلامية النشطة بإحدى المؤسسات الحكومية، انقلبت حياتها رأسا على عقب بمجرد تسلل بضع شعيرات بيض إلى ضفاف شعرها الفاحم الناعم. تقول: «خاصمت المرآة لعدة أيام، وتحاشيت النظر إلى شعري. فكرت أن أنزعها، ثم تراجعت، متذكرة حكمة أمي من أن نزع الشعر الأبيض يزيده كثافة. ما يؤلمني حقا أن ألجأ إلى الأصباغ، وأنا ظللت طول حياتي أكرهها، وأفضّل أن أعتني بشعري بطرق طبيعية بسيطة».

بعد مراجعة لنفسها وحساب السنين رضخت وفاء وصبغت الشعيرات البيض، بعدها أحست أن عقربا لدغتها في فروة شعرها.. «بصعوبة شديدة تخلصت من عادة لازمتني، على مدار أيام عديدة، حيث أصبحت أتحسس شعري بلا داع، وفي أي وقت، وأي مكان، وكأنه اختُطف مني».

وعلى عكس العشري الممتنّ للشيخوخة تقول وفاء: «مَن منا لا يخاف الشيخوخة، ويقشعر بدنه حين يفاجأ بأيدي الزمن تعبث بملامح الوجه ولون الشعر، وقدرة الروح والجسد على تحمل ضرورات وأعباء الحياة؟ نعم، يخاف الإنسان الفقر والفشل والمرض والوحدة وافتقاد الآخر، إلا أن الخوف من الشيخوخة يظل الأكثر قسوة وضراوة. طوال عمري أعتز بشعري، وأحمد الله أن وهب لي شعرا جميلا، لا أعتبره فقط تاج جمالي، بل أعتبره سر أنوثتي، وطفولتي، ثم فجأة أحس أن هذا التاج بدأ يهتز ويتهاوي!».

نسبيا اطمأنت وفاء على خوفها من الشيخوخة، واستطاعت التأقلم مع الوافد الجديد. وزاد اطمئنانها أكثر حين أخذت بنصيحة أختها الكبرى، وجربت أن ترتدي القبعة، بل إن الأمر راقها حين مازحها زوجها ذات صباح: «يا الله! هل هذه زوجتي أم برنسيسة هبطت من عصر النهضة؟!». تعلق وفاء بروحها المرحة: «أجمل شيء يمكن أن يفعله الإنسان في مواجهة الشيخوخة هو تقبُّل الأمر الواقع، ومع الوقت سيتحول هذا التقبل إلى نوع من الصداقة، ليس فقط مع نفسك، بل مع الآخر والأشياء. صدقني الحياة حلوة، ما دام هناك شمس وبشر يحبونك، ومن الصعب أن يعكر كل هذا بضع شعيرات بيض».

امتنان العشري ورصانته وخوف وفاء البديهي من الشيخوخة، يعكسان مفارقة غريزية، حيث يشير الكثير من المختصين في هذا الشأن إلى أن المرأة أكثر حساسية وتوجسا من الرجل في الشعور بالشيخوخة، بل أحيانا يتحول هذا الشعور إلى عقدة نفسية ومرض، فتصبح الشيخوخة عدوا، يظلل مرآتها، ويتربص دوما بخطواتها، بخاصة أن المرأة في مجتمعاتنا الشرقية لا تزال تشعر بالخجل من الكشف عن سنها، بل تعتبر ذلك بمثابة خيانة غير مشروعة للزمن الذي تتفنن في مواجهته، والتحايل عليه بشتى السبل، تارة بارتداء ثياب شبابية تجعلها تبدو أصغر من سنها، أو بالتمسح في تقاليد وعادات تخص الشباب، ولا تعبأ بما قد ينجم عن ذلك من حرج، وربما سخرية الآخرين منها. وعلى الرغم من أن الكثير من الرجال قد ينخرطون في دائرة هذه السلوك «الشيخو ـ شبابي» إن صح التعبير، فإنه يظل استثناء عابرا، لا يرقى إلى مستوى التعميم. وهو ما يفسره الدكتور أحمد محمود طبيب أمراض النساء والولادة، مشيرا إلى أن انقطاع الدورة الشهرية لدى المرأة بداية من منتصف الأربعينيات، وما بعد الخمسين لدى بعض النساء، غالبا ما يصاحبه تغيير نفسي أليم، نظرا لاقتناع المرأة بارتباط قدرتها على الإنجاب مع كينونتها كأنثى، وانتفاء الثانية عند انتهاء الأولى يؤثر بشكل بالغ على نظرتها إلى نفسها وإلى الحياة ومَن حولها. ولذلك نشعر عند ملاحظة زوجين، متقاربين في العمر من هذه السن، أن السيدة قد ظهر عليها علامات الكبر أسرع كثيرا من الرجل. ولا ننكر أن للهرمونات الأنثوية دورا هاما في الحفاظ على حيوية المرأة، ولكن توقف المبيض عن إنتاج الهرمونات لا يعني انتهاء وجودها في الجسم، فالغدة فوق الكلوية تنتج منها مقدارا لا بأس به، كما يتحول جزء من هرمونات أخرى إليها في الخلايا الدهنية. ويلفت الدكتور محمود إلى ملمح علمي مهم، موضحا أن حرمان المرأة من هرموناتها، على أسوأ تقدير، يساويها بالرجل فسيولوجيا، الأمر الذي يبرز الدور الهام للعامل النفسي، وهذا العنصر كما يشير باحثون وعلماء كثيرون، هو السبب الرئيسي لطول العمر النسبي في الدول المتقدمة عنه في الدول النامية، ويساعد من ثم في التعاطي الإيجابي مع الشيخوخة. فإلى جانب غياب التلوث، والوقاية الأفضل ضد المرض، ودقة التشخيص المبكر، وتوافر علاجات أحدث، فإن راحة البال، والبعد عن منغصات الحياة، التي تتمثل وتتلخص في «الخوف من المستقبل المجهول»، يطيل العمر ويؤخر الشيخوخة. و«الخوف من المجهول» ناتج أساسا عن انعدام النظام، وغياب الضوابط العامة، فالمواطن الأوروبي، على سبيل المثال، يعرف أنه سوف يعمل لمدة خمسة أيام ونصف ثم يحصل على راحةٍ يوما ونصفا أسبوعيا، وسيحصل على مبلغ معين مقابل ذلك، وأسعار السلع ستظل ثابتة، وأطفاله بالدراسة مهما حدث، وله تأمين صحي، إلخ، فلا يشعر بضغط عصبي مماثل لما يحدث لنظيره الإفريقي الذي لا يعلم ماذا تكسب يداه غدا، فيحيا حياة يمكن أن يقال عنها بكل أريحية واطمئنان إنها «تقصف العمر».

وبشكل يتحاشى الكثيرون الكلام عنه، غالبا ما يقترن هاجس الخوف من الشيخوخة بهاجس الخوف من الموت نفسه، فكبر السن يعزّز الإحساس بالضعف والعوز، ويعلي من منطق الإعالة، في التعامل مع الآخر، وأن ثمة سدودا وخطوطا حمراء، يكاد يتلاشى معها الشعور بالاستقلالية والحرية والقدرة على الاختيار، فأنا مسن يعني الظن في اهتزاز قدراتي العقلية والنفسية. حتى إن لحظات التأمل والتمعن تنسحب أكثر إلى الداخل، على حساب الخارج، الذي يرى المسن نفسه في مرآته مجرد متفرج عابر، وليس لاعبا أساسيا، كان له في الأمس صولاته وجولاته. تضيف الخبيرة الاجتماعية التربوية، رئيس مجلس إدارة جمعية «القلب الكبير» للإرشاد بالقاهرة الدكتورة فيروز عمر قائلة: «الشيخوخة مرتبطة بمخاوف حقيقية لأنها مرتبطة بتهديد (الفقد): فقد الصحة، والجمال، والقدرات الذهنية، والعمل، والمكانة الاجتماعية، والوجاهة، والاهتمام، والأحباب الذين رحلوا، أو الأبناء الذين انشغلوا. هناك إذن مبررات حقيقية للخوف، ولا حل لها سوى «التأقلم» و«التقبل» لهذه المرحلة، ولكننا نرى أناسا يستطيعون التأقلم، وآخرين غير قادرين عليه، والسبب يرجع إلى عدة عوامل، من أهمها مدى شعورهم بالرضا تجاه ما حققوه بالفعل في حياتهم الماضية، فكلما شعر الإنسان بأنه نجح في حياته، وأدى رسالته قدر استطاعته، كان تقبله أكبر لمرحلة الضعف والوهن وانخفاض الكفاءة، وهذا ما أشار إليه عالم النفس الشهير إريك إريكسون عندما تحدث عن مرحلة الشيخوخة، وقال إنها مرحلة صراع بين الارتياح واليأس. البعض يكون راضيا عن الماضي فيشعر بالارتياح ويتحلى بالحكمة، والبعض يكون غير راض لأنه فشل في إنجازاته في الحياة فيشعر بالخوف واليأس.

وحول اقتران هاجس الخوف من الشيخوخة بهاجس الخوف من الموت تقول الدكتورة عمر: «الحل هنا يكمن في الواعز الديني، ومدى الإيمان بالله تعالى والرضا بقضائه وقدره، وحسن التوكل عليه والاطمئنان به. وينعكس كل هذا على الخوف من الموت، وعلى معنى الموت نفسه. البعض يفهم الموت فهما مرعبا، ويرضخ لما يشاع عنه من خرافات لا علاقة لها بالدين، فيتصور أنه سيوضع في حفرة مظلمة (القبر)، وأن الدود سيسكنه وينهش لحمه، وهذا غير صحيح في الحقيقة، فالذي يوضع في القبر هو (الجسد) فقط. أما نحن (الأرواح والنفوس) فنسكن عندئذ في مكان آخر يليق بما قدمناه في الدنيا». وتشدد الدكتورة عمر على أنه يجب أن يعلم كل إنسان أنه بشر وأنه سيخطئ حتما، لكن المهم أن لا يتوقف أبدا عن إصلاح أخطائه، مهما تكرر الخطأ ومهما غلبه الضعف، دائما يضيف جديدا، دائما يصر على أن يكون أفضل وأن لا يتوقف أبدا.

وتخلص إلى أن النصيحة المهمة التي يحتاجها كل إنسان قبل أن يصل إلى سن الشيخوخة هي اغتنام طاقته في الخير، والقيام برسالته في الحياة قدر استطاعته، كما ورد في الحديث الشريف: «اغتنم خمسا قبل خمس، ومنها صحتك قبل مرضك وشبابك قبل هرمك». وتذكّر الخبيرة التربوية من وصل إلى هذه السن فعلا، بأن عليه أن يدرك أن الوقت لم ينفد، وأنه يستطيع تحويل طاقة «الخوف» التي بداخله إلى أي عمل خير، أو أي عمل صالح ومفيد، على قدر طاقته واستطاعته، كما يجب أن لا ينسى أن هناك كثيرين من البشر، وصلوا إلى سن متقدمة، وظلوا محتفظين بصحتهم وعطائهم حتى آخر لحظة. نحن نستعد لكل الأحوال ونتوقع الخير دائما في الدنيا والآخرة.

ومن وجهة نظر «هناء» التي تقف على عتبة الستين وتشغل منصب نائب مدير بمؤسسة استثمارية مرموقة، فإن الشيخوخة إفراز طبيعي ومحصلة واقعية، لمسيرة الإنسان في الحياة والوجود. ترفض هناء فكرة تستر المرأة وراء زي الشباب لتبدو أصغر من سنها، وتكبح الخوف من الشيخوخة، ففي رأيها أن جماليات الزي وطريقة الملبس لا يحكمها فحسب مجاراة خطوط الموضة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبشر، وإنما يحكمها بالأساس الإيقاع النفسي للإنسان، كما أنه ليس بالزي وحده يمكن أن تقاوم المرأة الشيخوخة، فالزي نفسه له شيخوخته الخاصة. تقول هناء: «أنا أحتفي بزيِّي وأراعي ما يلائم عمري، لكن كثيرا ما أكسر هذه الملاءمة في مناسبات خاصة حميمية، وأتصور أن التفكير المستمر في الشيخوخة، يحولها إلى شبح يطارد المرء، ويؤرقه في يومه وغده».

وتضيف: «أنا أعيش شبابي في أحفادي، سعادتي، بل عمري يتجدد حين يلتفون حولي، وينادونني: (العبي معانا يا جدتي). لذلك أتصور أن الشيخوخة إحساس بالدرجة الأولي، وهذا الإحساس يجب أن يكون متوازنا، بلا إفراط. يكفي أن يراعى المرء أحواله الصحية في هذه السن، وأن يصفو إلى نفسه، ويعاملها من منطلق أنه طفل في عباءة الشيخوخة، فليس أجمل من راحة البال وصفاء النفس».

لكن طارق متولي (صاحب شركة مقاولات خاصة) رغم أنه تجاوز عتبة الخمسين، فإن حيويته المتقدة، وشعره المنساب، يمنحانه عمر شاب في مطالع الثلاثين، يقول طارق: «أنا لا أكترث بعمري الحقيقي، الحمد لله ليس في رأسي شعرة بيضاء، ولا أحب أن يتلصص أحد على هويتي الشخصية، أنا أقيس عمري بمقدار ما أحققه من نجاح». ورغم ذلك يُحرَج طارق من الإفصاح عن سنه الحقيقية، بل يغضب حين يلح عليه أحد في ذلك، ويصرخ بلهجة ساخرة: «يا أخي بص جوايا، فيه طاقة نور مشعة، اسمها الأمل، اسمها الحياة، اسمها محبة البشر، اسمها الحب... هل أدركت إذن كم أنا كهل عجوز؟».

وعلى عكس المتوقع لا يعتبر طارق تمنُّعه هذا نوعا من الإحراج، بقدر ما هو اعتراض طبيعي على سلوك يرى أنه متطفل، لا يمارسه إلا موظف بالمعاشات أو التأمينات، ويضحك وهو يروي: «زوجتي عكسي تماما، بل على عكس غالبية النساء، فهي تصرح بسنها الحقيقية بمنتهى البساطة والعفوية، دون تكلُّف أو تذمُّر، وفلسفتها في ذلك أن هذا أمر طبيعي وواقعي، بل الأدهى أنها تعتبر من يخفي سنه أو يُحرَج منها شخصا جبانا». وهنا يعود طارق إلى سخريته بلا خجل، ويذكر أن صراحة زوجته كثيرا ما كانت مدار خلافات وشجارات عائلية بينهما: «مرارا أقول لها: المثل بيقول: داري على شمعتك تقيد، والحديث الشريف يجعل من كتمان السر وسيلة لقضاء حاجات البشر، لكن رأسها وألف سيف، إلا الصراحة. والمدهش أن هذه الصراحة كثيرا ما أوقعتها في مطبات ومفارقات اجتماعية محرجة، لكنها لا تتعظ، بل تحكي لي مصورة هذه المطبات وكأنها نوع من كوميديا الموقف، ومن لوازم البشر والحياة».

وحين سألته عن روشتة للشيخوخة رد بسرعة: «الغذاء الجيد، والرياضة، والنوم، والقدرة على الضحك». ثم ابتسم طارق مضيفا: «وامرأة لا تخجل من سنها».

وإذا كان العامل النفسي، كما يشير أطباء نفسيون، هو العنصر الأهم في المرور إلى مرحلة الشيخوخة، فإنه رغم الاجتهادات العلمية وتطورها المتلاحق في مقاومة الشيخوخة العمرية، ومحاولة إنعاش الإنسان وتجديد شبابه، فإن العلماء والباحثين يختلفون حول تعريف الشيخوخة، فهناك من يعرفها على أنها المرحلة المتقدمة من العمر التي تبدأ فيها أجهزة الجسم المختلفة تفقد وظيفتها، إما جزئيا وإما كليا، نتيجة عوامل الزمن، أو ما يمكن تسميته بالإجهاد الخلوي، وهو انتهاء العمر الافتراضي للخلية. وكما يقول أحد الأطباء المختصين في أمراض الشيخوخة، يمكن تشبيه ذلك بالسيارة، التي تفسد أجزاؤها مع مرور الزمن، وعلي ذلك فالـ«صيانة» الدائمة لها تطيل من عمرها الافتراضي. وكذا الجسد، كلما حافظنا عليه في أثناء مراحل العمر الأولي، ومنعنا عنه ما يضره من ملوثات وسموم وخلافه، تأخر ظهور أعراض الشيخوخة، وظل الجسد فتيّا. واتباعا لتلك النظرية، فإن الشيخوخة شيء لا يمكن الهروب منه، وإن تأجل.

يبتسم طارق متولي وهو يعلق على هذه النتيجة ويقول: «الخلاصة، أنا أنظر إلى الشيخوخة باعتبارها لصا، عليَّ أن أسرقه قبل أن يسرقني».