لاكويلا المدينة الباروكية الفاتنة تهتز ثقافيا حتى النخاع

أي عملية إحياء لمراكزها الفنية قد تحتاج على الأقل 16 مليار دولار

حتى في أثناء تساقط القنابل على لندن في عام 1940، كان المعماريون الإنجليز يعدون تصورات عن لندن في ما بعد الحرب وهذا ما تفتقر إليه المدينة الإيطالية (نيويورك تايمز)
TT

تحتاج المدن إلى قرون كي تكبر ولكنها يمكن أن تموت في غمضة عين، بعدما تسبب الزلزال الذي وقع في أبريل (نيسان) في مقتل المئات وترك الآلاف من دون منازل تؤويهم، بداخل المدينة الباروكية التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي تقع على بعد 70 ميلا من الشمال الشرقي من روما، كانت جهود الإغاثة استثنائية للغاية، فقد هُرع المتطوعون من جميع أنحاء إيطاليا للمساعدة، وتم نصب قرى من الخيام في منطقة الخطر، بل إنه تم تنظيم حفلات موسيقية لبث الأمل في قلوب أهل المدينة، وسرعان ما بدأ عمال البناء تشييد العشرات من المجمعات السكنية في ضواحي المدينة.

ولكن الآن، وبعدما تبنى عمداء المدن ووزير الثقافة الإيطالي جهود إعادة بناء المدينة التي كانت تقوم بها وكالات الطوارئ في يناير (كانون الثاني)، أصبح مصير لاكويلا محلا للتساؤلات، نظرا إلى نقص المال، والإرادة السياسية والذوق المعماري الراقي، بالإضافة إلى الاهتمام الدولي، والولع الإيطالي بالتفكير السحري. وكل تلك العوامل تهدد بإتمام مهمة القضاء التام على المدينة، التي كان الزلزال قد بدأها.

ولن تكون هذه هي المدينة الأولى التي لا تنجو من الزلزال، فبعدما ضرب زلزال مدينة سيسلي في الستينات لم يعد لوجود المراكز التاريخية سوى وجود اسمي من خلال المباني المتهالكة التي أصبحت تُستخدم كوسائل الإسكان المؤقت، والتي أصابها العطب من خلال الإهمال، ولكننا على أي حال نأمل أن يكون مصير لاكويلا أفضل من ذلك، فهناك جهود تبذل لإنقاذ ما يقدر بنحو 110 آلاف أثر وقطعة أثرية، يقدر وزير الثقافة أنها تأثرت جراء الزلزال.

ولكن المسؤولين بالوزارة يعتقدون أن عمليات الإصلاح سوف تستغرق من 10 إلى 15 عاما لإعادة المركز التاريخي إلى وضعه الطبيعي -أيا كان ما يعنيه ذلك- والأبنية كافة المحيطة به بما في ذلك المنازل الخاصة، والتي سيكون عليها في الوقت الراهن الحصول على موافقة الوزارة من خلال إجراءات دقيقة للغاية. يُذكر أنه قبل الزلزال كان يعيش بمركز تلك المدينة نحو 10 آلاف نسمة و60 ألفا على تخومه. وبعد عقد أو ما يزيد، لم يعد الأشخاص الذين كانوا يعيشون قبل ذلك في قلب المدينة يرغبون في العودة إليه، كما أن المساكن التي تم بناؤها لهم في المنطقة الصناعية المجاورة -150 منزلا من الحديد والخشب والأسمنت حتى الآن- قد تكون غيرت المنطقة بما يفوق التصور.

فتلك المدينة الباروكية الفاتنة لم تكن مستقرة بدرجة كبيرة، «ويرجع عدم الاستقرار في جانب كبير منه إلى مدى الدمار الذي خلفه الزلزال»، وكانت لاكويلا مركزا تجاريا وثقافيا، فقد كانت مدينة جامعة، وخلال عدة سنوات، وإذا لم يتم إحياء المركز التجاري، سيقتصر على كونه مزارا سياحيا من الدرجة الثانية.

وأي عملية إحياء لذلك المركز خصوصا إذا كانت عملية إحياء سريعة، سوف تحتاج إلى مليارات الدولارات (على الأقل 16 مليار دولار، وفقا لعدد من التقديرات) التي يجب أن يقرها البرلمان الإيطالي.

ومن جهة أخرى، لم يسفر العرض الذي تقدم به العمدة لاكويلا وغيره من المسؤولين الثقافيين مؤخرا بفرض ضريبة صغيرة للمساعدة على إعادة إحياء مركز المدينة عن أي نتائج. ففي دولة تواجه أزمات تتعلق بالسيولة ويشتت انتباهها سلوك رئيس الوزراء، منح نجاح جهود الإغاثة الانطباع بأن لاكويلا لم تعد في حاجة ماسة إلى المساعدات. وقد قال ميشيلا سانتورو مساعد عمدة المدينة ماسيمو شيالنتي مؤخرا: «إن الإعلام يروج لفكرة أن (الأشياء سوف تتحسن) ولكن ذلك بعيد عن الحقيقة».

ومن جانبه، كان السيد شيالنتي مشغولا باستقبال المراسلين وطواقم العمل التليفزيونية في مكتبه الذي يقع في مدرسة قديمة بضواحي المدينة مكررا نفس الرسالة المتشائمة: «إذا لم نُعِد بناء كل شيء بالطريقة الصحيحة (والذي يعني من وجهة نظرة إعادة بناء كل شيء كما كان تماما وإن بطريقة آمنة) فسوف يلحق العار أنحاء البلاد كافة وسيصبح لدينا بومبي أخرى».

ويعد ذلك تخوفا أساسيا هنا، فالإيطاليون يعتقدون أن عليهم إحياء الماضي أو أنهم سيكونون قد تخلوا عنه. فالبدائل يصعب تخيلها.

فتقول روبرتا بلولي التي تعمل بمعهد الموسيقى بلاكويلا إنها ساعدت في جر أجهزة البيانو من تحت الأنقاض بعد الزلزال. مؤكدة أن أهل لاكويلا يفتخرون بكونهم أقوياء.

وقبل عدة أيام كانت تقف وهي ترتدي قميصا قطنيا وحذاء رياضيا حيث كانت تعد للافتتاح الرسمي لمقر المعهد الجديد وهو البناء الذي تم إنشاؤه من المعدن والزجاج والذي تكلف 8 ملايين دولار والذي تم الانتهاء من بنائه في شهر واحد.

فتقول بلولي: «أريد أن يعود بيتي كما كان تماما». وكانت تتحدث عن شرفتها الصغيرة التي يعود طرازها إلى ما قبل الحرب بالمنزل الذي كانت أسرتها تعيش فيه لعدة عصور. لم يكن كنزا معماريا، ولكن تلك ليست القضية، فهو يمثل «هويتي، فالآن لاكويلا قد ماتت، وهم غير مهتمين سوى بالكنائس والآثار. لقد كانت المدينة بأسرها أثرا».

وفي إشارة إلى المجمعات السكنية التي أنشأتها الحكومة والتي تقع بالقرب من معهد الموسيقى، قال ألدو بندتي الأستاذ المعماري بلاكويلا: «لا يبنون وفق خطة، فهم ليس لديهم فكرة عن الفن المعماري، فإنهم يشيدون ثكنات عسكرية، مبعثرة في مكان ما».

ومن جهة أخرى، يقول لويغي شيرفيلاتي أستاذ التخطيط العمراني بفينيسيا إن إعادة تجديد المدينة سوف تركز على إعادة المواطنين إلى المركز بسرعة وليس توفير إسكان بديل أو سوف تركز على تجديد الكنائس والمواقع الأثرية والأسواق والمحال التجارية. ولكن مركز المدينة الذي يترك خاويا لعدة سنوات يموت. إن تلك المنازل التي يتم بناؤها على أطراف المدينة مكلفة للغاية ولا تعتمد على أي منطق عمراني، فهي كبوابات المطار. بلا أي روح. والخوف الأكبر هو أن يتحول مركز المدينة إللا لا مكان».

وكان المقيمون بتلك المنازل الجديدة في البداية ممتنين لحصولهم على مكان يقيمون به ولكنهم أعربوا عن تذمرهم من صغر المساحات الخالية وعدم وجود مكان كافٍ للمحال التجارية والملاعب الرياضية أو لإنشاء المنظمات الاجتماعية. ولا يستغرق الأمر وقتا طويلا في مثل تلك الكوارث التي حدثت هنا قبل أن يتحول امتنان الأفراد إلى قلة صبر وارتياب. وبالطبع كانت الإشاعات حول الفساد والرِّشى متفشية. فقد تكلف إنشاء معهد الموسيقى ثلاثة أضعاف مبلغ 3 ملايين الدولار التي كانت سوف تشتمل قاعة شيغيرو بان (المعماري الياباني) الموسيقية. وكان أهالي لاكويلا يشاركون السيد بنديتي تساؤلاته.

إذن ما الحل؟ حتى في أثناء تساقط القنابل على لندن في عام 1940، كان المعماريون الإنجليز يعدون تصورات عن لندن في ما بعد الحرب. حيث تمكنوا من تحويل الكارثة لفرصة للحلم. وفي غياب قيادة قوية ومرشدة، أو قوانين للتخطيط المدني القوي أو المنتديات العامة التي يستطيع من خلالها المواطنون مناقشة مصير لاكويلا، يسود شعور عام بأن الفرصة سوف تضيع. ولكن الفرصة ما زالت موجودة، وقد تمنح تلك الفرصة لاكويلا فرصة الاحتفاء بطراز معماري معاصر إلى جانب طرازها التقليدي كما فعلت قبل ذلك عندما تعرضت لزلزال 1703 وتحولت إلى هذه المدينة الباروكية المحبوبة التي يرغب الجميع في الحفاظ على طرازها المعماري. لم تكن لاكويلا قط مدينة مثالية ولكنها كانت مدينة حقيقية تعج بالحياة، وقد تصبح النموذج لنمط جديد من المراكز التاريخية في القرن الواحد والعشرين بإيطاليا.

ولكن الوقت يمضي. فعندما كنت أزور مؤخرا أطلال أبرشية كنيسة سانتا ماريا بانيكا التي أصبحت بلا سقف والتي يتراكم بداخلها جبل من الأطلال إلى جانب منور الكنيسة، كنت أتأمل الأطلال بينما كان هناك عالم آثار من وزارة الثقافة يدرس كل تفاصيل الكنيسة المحطمة وقد قضى نصف الساعة في ذلك الجو البارد يجادل السيد مايكل أنجلو سابوريتو، رجل الإطفاء الذي يعمل مع هيئات الإغاثة. كان السيد سابوريتو قد جاء من سيسيليا في مايو (أيار) بعد ميلاد طفله الثاني، وكان يرغب في المساعدة. وكان يصطحب أحد الزوار في ذلك الصباح لمشاهدة الكنيسة وكان قد قام باصطحاب عدد من الزائرين الآخرين لزيارة الكنيسة خلال ذلك اليوم. ولكنه نسي إحضار الإذن المعتاد حيث يعوق البيروقراطية وترتيب الأولويات على نحو خاطئ التقدم. يبدو الأمر كاستعارة. يقول السيد سابوريتو: «تماثل المشكلة تماما الطريقة التي تشرحها بها».

* خدمة «نيويورك تايمز»